Thursday, December 27, 2007

الدين والإيمان




الدين نشاط إنساني، أما الإيمان فمن الله. لذلك عندما تقدم رسالة الإيمان إلى الأشخاص المتدينين فإنها تقع من أسماعهم وقع الشيء الغريب. هكذا استقبل القادة الدينيون اليهود المسيح، وهكذا استقبلوا رسوله الأول بولس. هكذا أيضاً استقبل المتدينون الوثنيون رسالة الإيمان بالمسيح على لسان بولس ا لذي تخصص في تقديم الرسالة للأمم (أي من ليسوا يهوداً). في هذه الفقرة الهامة جداً من سفر أعمال الرسل، نرى مواجهة حقيقية بين الدين والإيمان، نستطيع منها أن نستخلص سمات مهمة للدين والتدين. صلاتي عزيزي القارئ أن تستخدمها مقياساً للكم الذي في حياتك من تدين حتى تتخلص منه أولاً بأول لكي تعبد الله الحيّ حراً من الدين الإنساني.

وَالَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ جَاءُوا بِهِ إِلَى أَثِينَا. وَلَمَّا أَخَذُوا وَصِيَّةً إِلَى سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسَ أَنْ يَأْتِيَا إِلَيْهِ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ مَضَوْا. وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا احْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ إِذْ رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُوءةً أَصْنَاماً. فَكَانَ يُكَلِّمُ فِي لْمَجْمَعِ لْيَهُودَ الْمُتَعَبِّدِينَ وَالَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ فِي السُّوقِ كُلَّ يَوْمٍ. فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ الْفَلاَسِفَةِ الأَبِيكُورِيِّينَ وَالرِّوَاقِيِّين.َ وَقَالَ بَعْضٌ: «تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هَذَا الْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟» وَبَعْضٌ: «إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِياً بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ» - لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَالْقِيَامَةِ. فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ قَائِلِينَ: «هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ الَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ. لأَنَّكَ تَأْتِي إِلَى مَسَامِعِنَا بِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ، فَنُرِيدُ أَنْ نَعْلَمَ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ». أَمَّا الأَثِينِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَالْغُرَبَاءُ الْمُسْتَوْطِنُونَ فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئاً حَديثاً.

دخل بولس معقل الدين، سواء الدين اليهودي أو الدين الوثني."رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُوءةً أَصْنَاماً".. رأى المجتمع مملوءاً بمحاولات بشرية للوصول إلى الله. أما بولس فلم يكن يتكلم عن دين جديد أو عن فلسفة جديدة وإنما كان يتكلم عن شخص وعن حدث تاريخي.... وكان يقدم هذا الشخص وذلك الحدث في صورة بشارة أو بشرى أي أخبار سارة......... .... لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَالْقِيَامَةِ

الدين دائماً ما يتكلم عن مبادئ وقواعد أكثر مما يتكلم عن اشخاص وعن أحداث، ودائماً ما يتكلم عن الثواب والعقاب، وكثيراً ما يحتوي الكلام على التهديد والوعيد أكثر من المحبة والفرح والسلام.


السمات الرئيسية للدين والتدين

فَوَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ وَقَالَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الأَثِينِيُّونَ، أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً لأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً مَكْتُوباً عَلَيْهِ: «لإِلَهٍ مَجْهُولٍ». فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ هَذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ.

أولاً: الدين هو إتقاء الإله المجهول

السمة الأولى للدين والتديّن هي أن تتقي الإله لا أن تحبه. أن تخافه وتهابه لا أن تشتاق إليه وتود الالتصاق به. فقط تريد أن تحمي نفسك منه وتتأكد أنك لم تغضبه. والأدهى من ذلك أن تتقي ما لست تعرفه. هذا يزيد من الخوف، لأنك لا تدري ما الذي يغضبه، وما الذي يرضيه. إن فعلت حسناً تقول لعله يتقبل وإن تبت عن معصية لا تعرف إن كان سوف يقبل توبتك أم لا. فهو إله نزق ذو نزوات لا يعرف أحد كيف سيتصرف. كما أنه ليس شخصاً بل هو مجموعة مبادئ. كيف يمكنك أن تحب إلا شخص ؟ !

أحد أدلة ارتفاع نسبة التدين في حياتنا الروحية، جهلنا بمشيئة الله وتساؤلنا عنها وطرقنا الأبواب لنعرف ما هي مشيئته. نحن نجهل مشيئته لأننا نجهله. عندما تعرف شخصاً معرفة حميمة، نادراً ما تتساءل عما يحب وما يكره.



ـــــــــــــــ



الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي

ثانياً: الدين هو ربط العلاقة بالله بالأماكن والأشياء.

الدين يقول أن الله يسكن الهيكل والكنيسة. ولا يمكن رؤيته والتعامل معه إلا في النصوص المقدسة. أما من يحب الله ويعيش علاقة حقيقية معه فإنه يراه في ورق الأشجار وفي ندى المطر وفي ضمة الأم لطفلها الرضيع وفي ضحكة الصديق للصديق، وفي عشق الرجل للمرأة وحب الإنسان للحياة

.

ـــــــــــــــ


وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي النَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ.وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ ،

ثالثاً: يميل الدين إلى رؤية أن الله هو المحتاج مني للخدمة.

الشخص المتدين يفكر دائماً ما الذي يريده الله منه. وكأن الله محتاج للبشر. الصنم الذي يصنعه البشر يُخدَم بأيدي الناس، أما الإله الحقيقي فيأتي ليَخدُم و يُعطِي لأنه ليس محتاج لنا بل نحن المحتاجون إليه. نحن المرضى المحتاجون شفاءه، والجوعى للحب المشتاقون لحضنه. الإله الحقيقي يُعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء. إن الخدمة الحقيقية لله هي أن نخدمه في البشر الذين يحبهم. لا لكي نتقي شرّه أو حتى نرضيه ، وإنما كتعبيير تلقائي عن المحبة لا يحتاج إلى لوم أو حث أو تأنيب.

ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ.


أيضاً الإله الحقيقي يرى كل البشر أبناء له، ولا يميز بين أمة وأمة، فهو قد َصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ ، أما الدين فهو أهم أداة للتمييز بين البشر ومصدر اساسي من مصادر التعصب والكراهية.

ليه باسم الإله ينسكب

دمّي على توبك

ودمك على توبي

مع إن مكرسكوبي

ما يشوفش فيه دليل

على مسيحية، أو إسلام !!!

ـــــــــــــــ


وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ.

رابعاً: الدين هو أن يعتقد الإنسان أن الله بعيد وأن على الإنسان أن يبحث عن الله

الدين هو أن يطلب الإنسان الله ويتلمسه لعله يجد وكأن الله مفقود. مع أن الله عن كل واحد منا ليس بعيداً، نحن البعيدين المفقودين. نحن به نحيا ونتحرك ونوجد. هو قريب أكثر مما نظن وأكثر مما يستطيع عقلنا ا لبشري أن يستوعب. في المسيح اقترب الله اقتراباً صدم الناس، وصدم فكرتهم عن الإله الذي يجب أن يكون متسامياً جدأً مترفعاً جداً ، بعيداً جداً وكأنه يستمتد هيبته وجلاله من ابتعاده ونفوره من البشر، ومن كل ما هو إنساني ومادّي وجسدي. أما الله في المسيح فكان هو الراعي الصالح الذي يبحث عن الخراف الضالة.

وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: «هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ». فَكَلَّمَهُمْ بِهَذَا الْمَثَلِ: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ».




الله يأمرنا أن نتوب عن ديننا ونقبل الإيمان الذي يقدمه

فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ اللهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ اللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَاخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ. فَاللهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ.لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ». وَلَمَّا سَمِعُوا بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ كَانَ الْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ وَالْبَعْضُ يَقُولُونَ: «سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هَذَا أَيْضاً!». وَهَكَذَا خَرَجَ بُولُسُ مِنْ وَسَطِهِمْ. وَلَكِنَّ أُنَاساً الْتَصَقُوا بِهِ وَآمَنُوا مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ الأَرِيُوبَاغِيُّ وَامْرَأَةٌ اسْمُهَا دَامَرِسُ، وَآخَرُونَ مَعَهُمَا.




لماذا لم تعشق المجرات الكونية

الممتدة في عمق الأزل

وعشقت الممرات الطينية

الضاربة في عمق أوردتي


لمَ َلمْ تعشق الصخور النارية

ولا انفجارات الكواكب

وعشقت ودياناً رملية

وسرّاً يُقال من صاحب لصاحب.

وبطون جبال كالحة

وطفلاً

في غبشة الفجر.. يشاغب


كيف نحتت أناملك عظامي

وشكَّلْت لحم رفاقي

وعشقت تجاعيد رجل عجوز

وبشرة طفل وردِيّ الملامح

ورجلاً مفتولاً



أنا أسرتك في المحبة

أنا حَصَرتُك في يومي

لا... لن أطلقك!

صارعني حتى طلوع الفجرِ

حتى انفجار كوكب الصبحِ

لن ألوذُ يوماً بالمعابد

بفاكهة صناعية

حتى لو كانت جميلة


فتلكسر حُقَ فخذي

وينبت مكانه البرتقال

ليُزهِرَ الزيتونُ على باب قبري

بعيداً عن الأضواء الفسفورية

وغث ما يُقال

واضرب على ناصية الأيام فتنبت

أزهاراً.. وأشعاراً

وقلوباً طرية


صَعِدتَ للآفاق الأبدية

وفي كفك حفنة من أعصابي

وعبائة من جلدي

وجماعة من أحبابي


ما الذي أعجبك فيَّ؟!

وأنت خلقت قطعان النورِ

ورسمت على وجه العدم

أسراب الشهب البركانية


أنت خلقت الزمنَ الطوليَّ

وعشقتَ لحظة المخاضِ

أوقفت الزمن لتشاهد

ميلادَ مهرةِ سمراءَ

في عمق المزارع البعيدة

في فقر أسرة وحيدة


الناس والبهائم تُخَلِّص

يا رب أجناد السماءْ

الناس والبهائم تُخَلِّص

ما أعجب الإنحناءْ

ماذا فيّ أعجبك ؟!

حتى اشتركت في ضلوعي

وأرهفت سمعكَ في الظلامِ

لهديل الحمامِ

ونبض دموعي

كيف ضبطت إيقاع المطر

على رنين أحزاني

والقمر المراهق

كيف علمته

أين عنواني؟


ماذا فيَّ أعجبك؟!

وأنا منسوج في عدم الاكتمالِ

كيف وقعت في عشقي

وفقداني لذاكرتي

يمتد للأجيالِ


كيف وقعت في عشقي

حتى قتلك العشقُ

وبه قتلتَ الموتَ

قل لي كيف أقع أنا

في هذا العشقُ ِ

وبالموتِ

أقتلُ الموتَ؟

Thursday, April 26, 2007

السامرية. إحدى المسكينات بالروح


انتظرت حتى الظهيرة لتتأكد أن كل النسوة قد ملأن جرارهن وعدن إلى بيوتهن. عندئذ خرجت وهي تتمنى أن تنجز المهمة باسرع وقت. ارتدت ملابسها، ولم تنس وضع بعض الحليّ وشدت حزاماً حول خصرها ليظهر تفاصيل جسدها قليلاً، ثم وضعت بعض الألوان على وجهها ــــ عادات لم تعد تشعر فيها بأي سعادة.

أتمت استعدادها للخروج بشكل تلقائي خالي من أي تفكير مثل الجندي الذي يرتدي "الشدّة" ويرتب الأسلحة في حزامه ليواجه الحرب، ثم قبل أن تخرج ألقت نظرة على المرآة، فأدركت أن عيناها حمراوتان من عدم النوم طوال الليلة السابقة فزادت من الكُحل حولهما لئلا يظهر احمرارهما. وقبل أن تمرق من الباب، أخذت نفساً عميقاً و ارتدت قناع القوة مستعدة للهجوم الذي أثبتت لها التجارب السابقة أنه خير وسيلة للدفاع.

لقد أثبتت كل هذه الدفاعات والأسلحة نجاحها على مر السنوات فلطالما ساعدتها لباقتها وروح مرحها المشوبة بالسخرية اللاذعة، أن تخرج من المواقف الصعبة وتتعايش مع أهل تلك القرية الصغيرة "سوخار" برغم سمعتها السيئة. كان الجميع يتكلمون عنها ولكن من وراء ظهرها. لم يجرؤ أحد أن يوجه لها أي اتهام أو هجوم واضح، وإلا تعرض لسيل جارف من سخريتها وصار أضحوكة الصبيان والبنات في الحيّ.

أما خلف هذه الدفاعات وبالرغم من مظهر القوة، كانت تبذل مجهوداً نفسياً شديداً لكي تبدو هكذا أمام الناس بينما قلبها في الداخل ينزف ببطء شديد طوال سنوات عمرها الثلاثين. لذلك كانت تتجنب الظهور أمام الناس كثيراً محاولة تقليل العبء النفسي الثقيل الذي كانت تبذله لتظل محافظة على مظهرها القويّ هذا.

تركته نائماً حتى الظهر، فقد كان يشرب الخمر حتى الصباح بعد أن وصل عند الغروب مع قافلته التجارية. وعدها بالزواج أكثر من مرة، لكنه لم يجد مبرراً يجعله يفي بوعده وهو التاجر الذي يفكر في كل شيء بمنطق الربح والخسارة. كلما حلت قافلته بالسامرة في طريقه من دان في أقصى الشمال إلى مصر في الجنوب، كان يميل ليبيت لبعض الأيام عندها. كان هذا يحدث مرتين أو ثلاث مرات فقط في السنة.

حاولت مراراً أن تقنعه بالزواج حتى ترفع رأسها قليلاً في قريتها الصغيرة سوخار بدلاً من أن تكون مجرد عشيقة التاجر المسافر، فكان دائماً يرد عليها قائلاًُ: " لماذا الزواج؟ وماذا أخذتِ من الزواج؟ لقد تزوجت خمس مرات وكلهم تركوك. لعلي بهذه ا لطريقة لا أتركك!"

قالت في نفسها: " لا تتركني؟!.. وهل أنت معي؟ أنت فقط تتوقف للحصول على بعض المتعة في الطريق!" لكنها لم تقو أبداً على قطع علاقتها به، فبالرغم من كونها تدرك تماماً أن كل كلمات الحب والغزل التي يقولها هي فقط مقدمة لكي ينال منها ما يريد، إلا أنها كانت "تعيش" على هذه الكلمات وكأنها نبتة صغيرة في الصحراء لا ترى المطر إلا مرتين في السنة!

خرجت من الدار متثاقلة وهي مطمئنة أن معظم النسوة في بيوتهن الآن يعددن الطعام لأزواجهن وأطفالهن..

آه الأطفال.. أخذوهم آباءهم..... خافوا عليهم من أن تربيهم امرأة مثلي!!

مسحت الدمعة المتمردة التي قفزت فوق دفاعاتها وهي تقول لنفسها:

"لا ليس الآن... ليس هنا.... لتكوني قوية.. نحن الآن في الشارع. الشارع الذي لا يرحم!"

وضعت جرتها على رأسها لتحميها قليلاً من شمس الظهيرة الحارقة وهي تفكر:

لكم ستكون مياه البئر ساخنة الآن! لكن ماذا أفعل؟ لقد تعبت من نظرات النسوة. صحيح أن إحداهن لن تجرؤ أن توجه لي كلمة واحدة ، لكني أشعر في الداخل أني أقل منهن جميعاً.

في الليلة السابقة لم يرحمها النوم ويأتي إلا مع الفجر فقد قضت ليلتها كلها تتابع شريط حياتها الذي بدأ منذ ثلاثين سنة عندما وُلدت كأول ابنة غير مرغوب فيها لأحد التجار المسافرين دائماً.

لعل ذلك ما جعلني أبحث عن التجار المسافرين والرجال اللاهين وأحاول أن أجعلهم يمكثون معي! ..

عندما خطرت ببالها هذه الفكرة، ندت عن طرف ثغرها الذي تعلوه حَسَنة جذابة، ابتسامة سخرية سوداء.

أبي غائب.. أمي حزينة كئيبة القلب لا تكاد تبرح فراشها.... أنا الصبية ذات العشرة أعوام كنت أفعل كل شيء ــ أرعى المنزل واخوتي الصغار وأخرج أيضاً للعمل... لكم كنت أتمنى أن تحتضني أمي، ولكنها كانت إما نائمة، أو تبكي أو إذا استيقظت، تشكي لي همومها وآلامها وشكوكها في خيانة أبي في البلاد التي يذهب إليها. كنت أواسيها وأخفف عنها ثم "أضعها في سريرها" وأذهب أنا إلى "شغل البيت". لقد كنت أنا، الطفلة الصغيرة، أُماً للجميع!!

لكَم كنت أشتاق لحضن أمي أو أبي، أو أي حضن... أي لمسة حنان! لكَم كنت أتوق لأن أتكلم فيسمعني أحد! لكَم كنت أشتاق لأن أبكي فتأخذني أمي في حضنها! لكَم كنت أتمنى لأن أحصل على الاهتمام و"الدلع" الذي كان صديقاتي يحصلن عليه من آبائهن وأمهاتهن!

عندما جائتني "العادة الشهرية" هَرعتُ إلى أمي خائفة: "ما هذه الدماء التي تتدفق مني يا أمي؟ هل سأموت! " فأجابت بعينين متثاقلتين: " لا لن تموتي.." ثم ألقت لي ببعض قطع القماش القديم وهي تقول دون أن تتجشم حتى عناء النظر إليّ :" سوف يحدث هذا كل شهر. هذا طبيعي... لقد كبرت!" ثم عادت إلى فراشها.

لا أذكر حناناً أو اهتماماً سوى اهتمام ابن عمّي.....ابن عمي؟ ....... آه لماذا تأتي كل هذه الذكريات الآن؟ لقد دفنتها منذ سنوات...

كانت أمي ترسلني إلى بيت عمّي من وقت لآخر لأقترض بعض الطعام... بعض القمح لنطحنه أو قليل من الزيت.. فقد كانت دائماً نقودنا تنفذ قبل أن يعود أبي من سفره الطويل. لكم كنت أشعر بالخزي! لكن صرخات اخوتي الصغار الجائعة كانت سياطاً تلهب ظهري وتدفعني إلى هناك! لكن بعد قليل، أصبحت أحب الذهاب، بل كنت أنا الذي اختلق الأسباب للذهاب.

....... ما الذي يجعلني أتذكر هذه الأشياء الآن؟

حاولت أن تنفض الذكريات عن رأسها المتعب وتواصل مسيرها للبئر، لكن سرعان ما عادت الذكريات متدفقة وكأنها مجموعة ذباب جائعة في بداية الربيع وقد عثرت على طبقاً من العسل!

بالطبع أثارت ذكرى ابن العم في قلبها مشاعر مختلطة من الشجن والخزي معاً.

كان ابن عمي هو الإنسان الوحيد الذي لمس جسدي في ذلك الوقت. لم تكن لمساته هي بالتحديد ما أريد، لكنها كانت لمسات على أيّ حال. بالطبع سرعان ما تطورت لمسات الحنان إلى ما هو غير ذلك وشيئاً فشيئاً أصبحت لدي "علاقة جنسية كاملة" بابن عمّي وأنا في سن العاشرة! كانت هذه هي النهاية الرسمية لطفولتي. أصبحت "امرأة" في سن العاشرة.

الحقيقة لم أكن أشعر أن هناك شيئاً ما خطأ، فقد كان يعطيني ما أريد وأعطيه أنا ما يريد. كان يعطيني بعض الحنان الذي كان يمدّني بالقوة لأكمل حياتي الصعبة، وأنا أعطيه ما يجعله يطفئ نار الذكورة المتأججة في جسده حديث البلوغ. لا أستطيع أن أنكر أنني أيضاً شعرت ببعض اللذة وتعلقت بها بل وأعتمدت عليها تماماً وكأنها صديقي الوحيد في هذه الحياة التي ليس فيها إلا المسؤوليات.

هكذا مبكراً في حياتي تعلمت أنه لا حنان بدون ثمن؟ الرجال لا يعطون الحب إلا في مقابل الجنس، وعليّ أن "أدفع". لقد قبلت هذه الحقيقة كإحدى حقائق الحياة التي لا تُناقَش. وهكذا دفعت.. ودفعت. لكنهم كانوا دائماً يأخذون ما يريدون ثم يمضون في طريقهم طال الوقت أم قصر. حتى الزواج لم يمنعهم من الرحيل. أخذوا الأطفال وتركوني أنوح وأبكي وليس من يمسح دموعي إلا تتابع الأيام الرتيبة غير المبالية.

من يصدق أن هذه الدورة تكررت خمس مرات؟! ربما اختلفت السيناريوهات قليلاً.. لكنها نفس النهاية الحزينة كل مرّة. وفي كل مرة كنت أظن أن الحبيب الجديد سيكون مختلفاً وسيحترم الزواج والأسرة ... ما أغباني!

معه حق أليفاز.. ماذا أفادني الزواج؟ ربما، كما يقول، أن سبب بقاءه معي حتى الآن هو أننا لم نتزوج. ربما الرجال لا يحبون الالتزام. ولكنّي واثقة أن أليفاز أيضاً إذا ملّ مني سوف يرحل، بل إذا تغير مسار قافلته فلا يعود يمر بسوخار، سوف ينسى حتى أنه عرف امرأة من السامرة. أعرف تماماً أنه كاذب وكل ما يريده هو الجنس. ولكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أعيش وحدي!

يا لشقاوتي! فأنا كمن يشرب ماءً مالحاً. ومع كل شربة، يُمَنِّي نفسه بالارتواء، ثم لا يزيده الشرب إلا عطشاً!

لم تفق من أفكارها إلا عندما وصلت للبئر. أنزلت الجرة وهمّت بأن تدلّيها إلى البئر. وقبل أن تصل بها إلى مستوى الماء، سمعت خلفها صوتاً عميقاً هادئاً:

- اعطيني لأشرب.

التفتت لتجد رجلاً في الثلاثينات من عمره، جميل المظهر تشي نظراته بحنان ممزوج بالثقة الشديدة بالنفس. كما تدل ثيابه ولهجته أنه يهوديّ.

رجل يهودي هنا عند البئر يتحدث إليّ دون سابق معرفة، ويطلب مني أن أعطيه ليشرب! ما هذا؟! هل هذه هلوسة بسبب عدم النوم؟

بسرعة حاولت أن تداري ارتباكها بكلمات بدأت متعثرة، ثم تدريجياً استعادت قوتها و جرأتها المعتادة في الحديث، ولم تنس أن تضيف للكلمات بعض نظرات الإغراء المثيرة التي أصبحت تخرج منها بطريقة عفوية معتادة وكأنها برنامجاً يعمل تلقائياً:

- كيف تطلب مني لتشرب وأنت رجل يهوديّ وأنا امرأة سامرية؟!

بادرها بعبارة جعلتها تشعر أكثر فأكثر أنها ليست أمام رجل عاديّ.

- لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت مِنه فأعطاك ماءً حياً.

من هذا الرجل؟ هل يريد مني ماءً ؟أم يريد أن يعطيني ماء؟ أم فقط يحاول أن يتجاذب أطراف الحديث معي؟ لا أظن أنه يريد ما يريده الآخرون. ثم.. الله؟ عطية الله؟ ... أنا لا أحب الكلام عن الله! ولكن مالي أشعر أن وقع كلمة "الله" على لسان هذا الرجل بالذات يأتي مختلفاً؟ ...عطية الله؟ هل الله يعطيني أنا؟ وماذا أعطيته في المقابل؟ ثم ما علاقة الله وعطية الله بهذا الرجل؟ وما له يتكلم بهذه الثقة: "لو كنت تعلمين من هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب!"... من تكون؟! ثم ما هو الماء الحيّ هذا؟

تذكرت فجأة أنها منذ لحظات كانت تفكر في نفسها أنها مثل الذي يشرب ماءً مالحاً..

ألعل هذا الرجل سمع الفكرة التي دارت بذهني من لحظات؟ أم أن عطشي وجفافي أصبحا واضحين لهذه الدرجة؟

منذ أول وهلة كانت قد لاحظت أنه ليس كباقي الرجال. يكفي أنه ينظر إلى عيناها مستقيماً ولا تجول عيناه بجسدها كما يفعل أغلب الرجال. ثم أن نظراته بها شيء ما ينفذ إلى القلب، ليس القلب الذي أحببت به الخمسة السابقين ولا أليفاز الحاليّ وإنما إلى قلب القلب!

لم تدر لماذا فجأة شعرت أنها أمامه نفس الطفلة الصغيرة ذات الأعوام العشرة وكأن السنوات العشرين التي مرت بها قد لملمت ثيابها وزيجاتها وأطفالها ووقفت جانباً تراقب هذا اللقاء.

إنه بالطبع لا يتكلم عن الماء الذي في هذا البئر، ولا في أي بئر. شيء ما في أعماقها أدرك أن هذا الرجل وصل إلى عطشها الحقيقي الذي حاولت طوال تلك السنوات العشرين أن ترويه. لكنها لم ترد أن تصدق. سيطر الخوف المشوب بالفرح والترقب على كل كيانها. حاولت أن تهرب من هذه المواجهة، في الوقت الذي كانت تشعر فيه بكل كيانها يندفع نحو ذلك "الماء" الذي يشير إليه دون أن تعرف ما هو وكيف يمكن لهذا الرجل أن يعطيها إياه وما علاقة هذا بالله؟!

أجابت وكأنها لا تفهم ماذا يقصد، لكي تعطي نفسها فرصة لتستجمع نفسها:

- يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحيّ؟ ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟".

فهم يسوع أنها تراوغ فتكلم بصراحة أكبر:

- كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.

قضت هذه الكلمات على كل محاولاتها للفهم، فبرغم ذكائها الفطري الحادّ، نجحت كلمات يسوع في تعطيل كل برامج عقلها تماماً. لكن قلبها كان يشعر براحة غريبة. شعرت فجأة بالعجز وفقدان السيطرة على كل كيانها. هذا الشعوردائماً ما يجعلها ترتعب رعباً شديداً، فهي لم تفقد السيطرة للحظة على عقلها أو مشاعرها أو حتى جسدها طوال سنوات عمرها الثلاثين. حتى أثناء ممارسة الجنس، تعودت أن تكون مسيطرة تماماً على كل ردود أفعالها. في كل العلاقات السابقة كانت تعد نفسها للفراق منذ بداية العلاقة حتى لا تتألم. فقدان السيطرة للحظة واحدة بالنسبة لها هو الموت المحقق! لكن هذه المرة، شيء ما جعلها تتصالح مع شعورها بالعجز والاحتياج؟ أسئلة كثيرة تزاحمت في عقلها؟

ما هو "ماء الحياة" هذا؟ ومن هذا الإنسان ليقول هكذا بجسارة أنه يستطيع أن يعطي ماء من يشربه لا يعطش إلى الأبد؟ ولماذا أشعر أنه صادق؟ لا ليست كلماته.. إنها عيناه.. فيهما حُبّ وقبول لم أرهما من قبل. عقلي لا يفهم معنى القبول، لكن شيء ما بداخلي يبدو وكأنه يفهم هذا الذي لا يفهمه عقلي. أشعر أن كياناً ما يرتوي بداخلي كلما نظرت إلى عينيه. ليست فيهما نظرة الرجال المتعالية على النساء، ليس فيهما حب الرجال أو شهوتهم، ليس فيهما احتقار اليهود لنا نحن السامريين. ليس فيهما كل ما توقعت أن أجده. فيهما شيئ غريب! هذا فقط هو ما يجعلني أميل لتصديق ما يقوله هذا الرجل من كلمات تبدو كعين الجنون! لولا أن نظرات عينيه تقولان أنه أصدق إنسان في الوجود لاعتبرت ما يقوله هذيان مجذوب من مجاذيب الهيكل!

مهما كان هذا الماء، فأنا أريده بأي ثمن. أنا أريد أي شيء يقول عليه هذا الرجل. شيء ما بداخلي يصدّقه ويريد أن يطلب منه هذا الماء، لكن شيئاً ما آخر خائف ومتردد.

قالت وكأنها تحاول أن تمنع طفلة بداخلها تريد أن تهرع إليه وترتمي في أحضانه:

- يا سيد... اعطني هذا الماء

ثم أضافت لكي تغطي الكلام مرة أخرى

- لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي!

- اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا.

آه..... يبدو أن هذا الرجل يعرف كل شيء! إن ما شعره قلبي من البداية كان صحيحاً. هذا الرجل بالفعل ليس رجلاً عادّياً. أشعر كأن نظراته ترى حياتي كلها منذ بدايتها حتى نهايتها.

- ليس لي زوج!

- حسناً قلت ليس لي زوج لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق.

شعرت وكأن قلبها يغوص حتى قدميها. انهارت كل دفاعاتها في هذه اللحظة.. وشعرت بعجر وضعف لم تشعر به حتى عند ولادتها. حاولت أن تتكلم. لم تخرج الكلمات. ثم انسابت بعض الكلمات منها دون أي وعي.

- يا سيد أرى أنك نبيّ!

- ماهذا الذي قُلتِ؟!

- لقد اعترفت بالحقيقة. ما يقوله هذا الرجل هو الحقيقة!

- وكيف شَعُرتِ بالأمان هكذا لتعترفي بالحقيقة؟

- أنا أشعر معه بالأمان.

- كيف؟ ألم أعلمك ألا تشعري بالأمان مع أي إنسان؟

- لا أدري. ولكن هذا الرجل ليس كجميعهم؟

- من أدراكِ يا غبية؟

- لا أدري. هكذا شعرت، فهكذا قلت!

- كم مرة علّمتك ألا تقولي ما تشعرين به ، بل عكسه تماماً!

- لم أستطع!

دار هذا الحوار بينها وبين طفلة داخلها!

ثم استجمعت أطراف شجاعتها المعهودة واستدعت بسرعة أرشيفها من المعلومات الدينية، فهذا الرجل غالباً لا تنفع معه الحيل الأنثوية المعتادة. ثم قالت وهي تحاول أن تبتعد بأقصى سرعة عن

تلك النقطة التي وصل إليها الحديث.

- آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه.

- يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.

صدقيني؟! ...... لم يقل لي أحد من قبل هذه الكلمة الحميمة.. ثم من هو هذا الأب؟ السجود هو لله......هل الله أب؟ هذا كلام غريب! ما معنى الأبوة؟... ثم ما معنى أن الله روح؟ وهل يمكن السجود لله في أي مكان؟!! حقاً أنا أمام رجل مختلف يقول كلاماً مختلفاً!

هذا الكلام الذي يقوله يشبه نبوات الكتاب عن الملكوت الآتي. كلام ربما لن يتحقق إلا بعد أن يأتي المسيا نفسه!......نحن لا نحب اليهود.. ولاهم يحبوننا.. لكننا جميعنا ننتظر المسيا في نهاية الزمان! نحن كلنا نعرف أصله ومصدره ونعرف أنه سينصفنا جميعاً، اليهود والسامريين والجميع. لكن متى يأتي؟

ألعله يأتي أساساً؟!!

- أنا أعلم أنا مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء.

- أنا الذي أكلمك هو.

دارت الدنيا بها... أمسكت بحافة البئر لكي لا تهوي على الأرض.

أنا أتكلم مع رجل قال لي لتوه أنه المسيا!!!!

لو لم يكن قد قال ما قاله، ولو لم تكن عيناه تشعان هذا الصدق العجيب، لضحكت من أعماق قلبي!

المسيا جاء!!

وجاء لي أنا!!!

المسيا يأتي للهيكل بمجد وقوة.. لا يمكن أن يكون هذا هو المسيا!

لكن لا يمكن أيضاً أن يكون هذا إنساناً عادياً. هذا إما مجنون، أو هو المسيا!

لكن كيف يكون هذا مجنوناً؟!

المسيا يظهر على سحاب السماء بمجد في نهاية الزمان فيخضع الأرض تحت قدميه! المسيا لا يظهر لامرأة متعددة الأزواج على بئر بسوخار السامرة!

عقلي يكاد ينفجر!

إن كان هو المسيا، فيجب أن يعرف الجميع. لا يمكن أن أحتفظ بهذا الخبر لنفسي.

إنه هو المسيا!

لم تدر المرأة إلا وقد تركت جرتها معه عند البئر، وهرعت للمدينة التي كانت تهرب منها وهي تردد عبارة واحدة فقط: " هلموا انظروا انساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟!"

وقعت كل دفاعاتها وهي تجري

لم تعد تبذل أي جهد في مواجهة الناس

لم تعد تحتاج لقناع القوة، أو حيل التفوق

شعرت أن شيئاً ما أكبر منها وأكبر من الحياة نفسها يحتويها

شعرت بقوة وجرأة لم تشعر بهما من قبل

قال لي كل ما فعلت!

لقد صار عاري الذي كنت أخفيه، برهان صدق بشارتي وحجتي أنني، أنا، قد وجدت المسيا الذي يفتش عنه الجميع!

أنا السامرية المزواجة الزانية التي تعيش في الحرام ظهر لي من تنتظره كل الأجيال

يا لها من كرامة!

يا له من رد لاعتباري لم أكن أتخيله!

وعندما سمع أهل المدينة هذه المرأة بالذات تقول هذا، هرعوا وراءها وأتوا إليه، فهي ليست امرأة عادّية. الكل يعرفها ويعرف أنها لا تنسى نفسها هكذا إلا إذا كان ما تقوله مهماً.

أخذوا يتكلمون معه ويكلمهم وهي واقفة وسط الصفوف تنظر إلى أهل قريتها وتنظر إلى يسوع وابتسامة غريبة تعلو وجهها، وجزء من عقلها يُعدّ ما ستقوله لأليفاز لإنهاء العلاقة!

Friday, March 30, 2007

زكا..... مسكين آخر لا تبدو عليه المسكنة


- " يا زكا...... أسرع وانزل....، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك!"

قال يسوع هذه العبارة غالباً بصوت عالٍ جداً ليسمعه زكا المعلق على شجرة جميز كبيرة وسط صخب جماهيري هائل. بعد أن قالها يسوع، ساد صمت لعدة ثوان لم تقطعه سوى همهمات اعتراض وصل بعضها إلى أذني يسوع وآذان تلاميذه.

- " إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ!"

- " هو لم يدعه.. لكن يسوع اختار أن يبيت عند أغنى الأغنياء.. طبعاً !"

- " لو كان هذا نبياً لعلم أن زكا هذا رئيس العشارين!"

- " هو يعلم أنه رئيس العشارين. هذا عيب يسوع. تعليمه جميل. كلامه به سلطان. معجزاته لم يعملها نبي قبله. لكن عيبه الوحيد هو تساهله هذا مع الخطاة. عموماً.. "الحلو ما يكملش" !

- " أنا محبط منه جداً... كنت أظنه باراً نقياً لا يختلط بالخطاة."

- "هذا رجل مخادع!"

- " إنه يعلم أن زكا غني. ويعلم أنه سيعد له وليمة عشاء فاخرة. عيب يسوع أنه يحب الولائم والطعام الشهي. كيف يتصور أحد أن من بدأ خدمته بالصيام لأربعين يوماً يكون هكذا أكولاً وشرّيب خمر، محباً للعشارين والخطاة!"

نزل زكا من فوق الشجرة والفرحة لا تسعه وصار يمشي وسط الناس بفخر وخيلاء فهو قد أصبح في غفلة من الزمن مضيف يسوع لهذه الليلة. أصطحب زكا يسوع وتلاميذه إلى بيته وهو يتمنى أن تراه الدنيا كلها يمشي متأبطاً ذراع يسوع. نعم يسوع.. الذي تتمنى كل اليهودية والسامرة والجليل وكل سورية أن تنعم بنظرة من عينيه.


صورة الرسالة الواردة من أورشليم من طرف يوليوس والي الجليل إلى المحفل الروماني بمدينة رومية إلى شزاريني أمير رومية.

إنه قد بلغني أيها الملك قيصر أنك ترغب معرفة ما أنا أخبرك به الآن فاعلم أنه يوجد في وقتنا هذا رجل سائر بالفضيلة العظمي يدعي يسوع وأن الشعب متخذة بمنزلة نبي الفضيلة. فبالحقيقة أيها الملك أنه يوميا يسمع عن يسوع هذا أشياء غريبة فيقيم الموتي ويشفي المرضي بكلمة واحدة وهو إنسان بقوام معتدل ذو منظر جميل للغاية له هيبة بهية جدا حتى أنه يلتزم من نظر إليه أن يحييه ويخافه وشعره بغاية الاستواء متدرج على أذنيه ومن ثم إلى كتفيه ترابي إنما أكثر ضياء وفي جبينه عره كعادة الناصريين ثم جبينه مسطوح وإنما بهج ووجهه بغير تجعيد بمنخار معتدل وفهمه بلا عيب وأما منظره فهو رائق ومستر وعيناه كأشعة الشمس ولا يمكن لإنسان أن يحدق النظر في وجهه نظرا لطلعة ضيائه في حينما يوبخ يرهب ومتي أرشد أبكي ويجتذب الناس إلى محبته. ....يمشي حافياً عريان الرأس فكثيرون إذ يرونه يهزءون به ولكن بحضرته وبالتكلم معه يرجف ويذهل. وقيل أنه لم يسمع قط عن مثل هذا الإنسان في التخوم وبالحقيقة كما تأكدت من العبرانيين أنه ما سمعت قط روايات عليه كمثل ما نعلم عن يسوع هذا وكثيرون من علماء اليهود يعتبرونه إلها ويعتقدون به وكثيرون غيرهم يبغضونه ويقولون أنه مضاد لشرائع جلالتك فترى فيّ قلقا من هؤلاء العبرانيين الأردياء. ويقال عنه أنه ما أحزن أحدا قط بل بالعكس يخبرون عنه أولئك الذين عرفوه واختبروه أنهم حصلوا منه على إنعامات كلية وصحة تامة. فإذا أنا بكليتي ممتثل لطاعتك ولإتمام أوامر عظمتك وجلالتك.

الإمضــــاء يوليوس لستوس والي اليهودية

أما اكتشاف هذا اللوح فكان سنة 1280م. بمدينة الويلا من أعمال نابولي أثناء البحث عن الآثار الرومانية وبقى فيها إلى أن وجده المندوبون العلميون الذين رافقوا الجيش الفرنسي حين انتشبت الحرب في جنوبي ايطاليا



صور من الماضي تقتحم ذاكرة زكا وهو يمشي مع يسوع

مجموعة من الأطفال الصغار العنفاء يتلفون حول زكا الصغير والغبار يملأ الجو

زكا يا قزعة.... يا قد النملة

مين قالك........تعمل دي العملة!

زكا يا قزعة.... يا قد النملة

مين قالك........تعمل دي العملة!

خلال تلك اللحظات تاهت نظرات زكا وكأنه يرى ما لا يراه أحد.

. ثم فجأة يعود بنفسه للحاضر وينظر إلى يسوع وابتسامة عريضة تملأ وجهه ويحاول أن يجد أي معلومات دينية أو فقرات كتابية يتجاذب بها أطراف الحديث مع هذا المعلم ذائع الصيت لكي يشعر ببعض "الاستحقاق" أن يكون مضيفه هو وتلاميذه هذه الليلة.

- أيها المعلم يسوع.. لقد علمت أنك تقول أن ملكوت السموات قد اقترب..هل معنى هذا أن الرومان قد أصبحت أيامهم معدودة بيننا؟ لقد سمعت أنك تتلو كثيراً نبوات إشعياء عن اقتراب الملكوت. أنت تعلم بالطبع أن إشعياء هذا عاصر أربعة ملوك كان آخرهم حزقيا الملك المُصلِح.

- نظر يسوع إلى زكا وابتسم في حنان ولم يقل شيئاً.


عادت نظرات زكا تنظر إلى الأفق وكأن روحاً غريباً تملّكه..

يرى نفسه طفلاً يعود وحيداً من "كُتّاب" أريحا للأطفال وخطّان من الدموع الجافة يمتدان من داخل مقلتيه في اتجاه طرفي فمه بعضهما لايزل مبتلاً لامعاً والبعض قد جف إلا أنه لا يزال ظاهراً. أما قلبه الصغير فيشهد تحولاً تدريجيا من الخزي إلى الألم ثم من الألم إلى الغضب ثم إلى المرارة. ثم إلى القرار والتصميم.

اندمج في تيار ذكرياته حتى أنه شدّ على قبضتيه وهو يمشي مع يسوع.

يتذكر زكا الآن أنه اتخذ قراراً حاسماً في الطفولة. وهو يتذكر الكلمات التي رنت في ذهنه وهو عائد للبيت في ذلك اليوم منذ أربعين سنة.

أحلف بالسماء والأرض أن يأتي اليوم الذي فيه أجعل كل هؤلاء يجثون لي ويستعطفوني. لا أعلم كيف، لكن أعلم إني سأفعل ذلك !

عاد ذهن زكا للحاضر قليلاً وتعجب. كيف استطاع يسوع أن يرى جسدي الصغير معلقاً على تلك الجميزة الهائلة وسط هذه الجماهير الغفيرة. لماذا قال أنه "ينبغي" اليوم أن يمكث في بيتي.

لعله كان يرى ما يدور بداخلي منذ أن سمعت به

وكيف أنني منذ تناهي إلى سمعي تعليمه من خلال زوجتي، لم أر للنوم طعماً وأشعر أن شيئاً ما خطأ في حياتي.

ألعله يعرفني جيداً؟ العله يعرف ما أفكر فيه؟ ألعله يعرف شريط الذكريات الذي تأتي صوره متدافعة في ذهني الآن؟

لم يكن زكا سوى طفل صغير وُلِدَ منذ خمسين عاماً في قرية مجاورة لأريحا لا يرغب من الحياة سوى أن يُحِب وأن يُحَب

ولكنه عندما يجد الحب الحقيقي، اضطر ككثيرين غيره أن يبحث عن بدائل.

وصلت لزكا مثلما وصلت للكثيرين رسالة مفادها أنه لا مكان ولا حب ولا احترام في هذه الحياة سوى للأقوياء، علاة المقام,.

لا مكان تحت الأضواء إلا للجريئون والجميلات، طوال القامة ممشوقي القوام

فإن لم تستطع أن تكون من طوال القامة، فلتكن من علاة المقام !

وإن لم تستطع أن تُحسَب مع الأغنياء فلتزاحم الخدّام!

وإن لم تكن من الموهوبين في الأفعال والإبداع، فلتكن من أصحاب الكلام والإقناع!

لا بد لكي يكونه مكاناً بين الجموع، أن تفعل شيئاً يستحق الاهتمام

يجب لكي يلاحظك الناس أن تعتلي برجاً أو شجرة أو تقف فوق كومة من المال أو وسط "شلة" من الاصدقاء.

فكر زكا في قلبه...

لكن مالي ونفوذي لم يجتذب يوماً نوعية يسوع، بل على العكس، كان هؤلاء ينفرون مني ويلقبونني بالسارق الخائن.

لم أعجب يوماً طائفة الروحانيين المتدينين ولا حتى طائفة السياسيين الثوار الراغبين في تغيير الأمور.

كان المنتمون لتلك الطائفتين هم الوحيدين الذين لا يتملقوني. ولكم كنت أتمنى أن أضمهم أيضاً إلى مجموعة المنتفعين من صداقتي الخاطبين ودّي. وها أنا الآن قد ظفرت بأفضل من فيهم وأكثرهم شهرة ومجداً حتى أن مدناً بأكملها كانت تخرج لتمشي وراءه. هو الآن يمشي بجانبي ذاهباً إلى بيتي.

من مثلي في هذه الدنيا !

لقد حصلت على كل شيء

لقد حققت أملي القديم. بل ما هو أكثر منه!

بعد أن كان زملائي في "الكتّاب" يجرون ورائي ليلقوني بالأحجار ويتهكموا على قصر قامتي، ها هي إريحا كلها تمشي ورائي في غيرة وحنق وأنا أتقدمهم متأبطاً ذراع يسوع.

لكن... لكن لا يزال شيئاً صغيراً فغي أعماق قلبي لا يريحني تماماً

.. عندما التقت عيناي بعيناه وأنا فوق الشجرة، رأيت شيئاً لم أره من قبل في حياتي.

لم أر الغيرة والإعجاب الذان أستطيع تمييزهما في عيون كل الناس من كثرة ما رأيتهم. كما لم أر الضيق والدينونة والاحتقار الذي كنت أراه في عيون المتدينين. رأيت شيئاً لم أره من قبل.. سهمان من عيناه اخترقاني وكأنهما يعرفان طريقهما جيداً إلى سويداء القلب!

ربما هذين السهمين هما الذي فتحا عليّ خزانة الذكريات والصور القديمة التي تأتي إليّ من غياهب الطفولة...

لا يهم كل هذا الآن.

كل ما يهمني هو أن أحتفظ بيسوع بين يدي حتى يدخل تحت سقفي. أتمنى ألا يصادفه مريض أو شخص ملبوس بروح شرير فيقضي الأمسية معه ويعتذر لي بأدب. كما أتمنى ألا يبدأ في تعليم هذه الجموع حتى تغيب الشمس أو أن ينصرف عني في منتصف الطريق ويذهب إلى الجبل ليمضي الليل كله في الصلاة. أنا أعلم أن سلوكياته غير متوقعة دائماً.

هل من المعقول أن يفعل ما قاله.. أن يبيت تحت سقفي؟!

ويأكل في بيتي !

هل من المعقول أن يكون بيتي الذي ينعته الفريسيون بالنجاسة هو مكان إقامته أثناء زيارته لأريحا؟

لا أظن!

أكيد سوف يعتذر لي في منتصف الطريق خوفاً على سمعته وخدمته!

ولكني لن أتركه يمضي. سوف أتعلق به ولن أتركه إلى تحت سقفي وأمام مائدتي.

رتب الخدم المائدة.

ربما كانت أفخر الموائد التي مُدّت في أريحا في الفترة الأخيرة. لم ينقصها شيء من أطايب الطعام والشراب.

الجميع سعداء...

رائحة الشواء اللذيذة تتصاعد من الخروف متوسط العمر الذي اتخذ مكانه المميز في وسط المائدة..

كان زكا لأول مرة منذ فترة طويلة.. سعيداً!

لكن شيئاً ما قوياً كان يحدث في أعماقه ويلهب قلبه كما ألهبت نار الشواء ذلك الخروف الذي سوف ينشغل الجميع بالتهامه بعد دقائق.

تلك النظرة...

يا لها من نظرة....

لقد قلبت كياني هذه النظرة..

ليست النظرة فقط..

لقد أعلن استعداده أن يدخل بيتي دون أن أتوب!

لم يسألني إن كانت أموالي التي سوف أستضيفه بها "حلالاً" أم "حرام!"

لم يهتم!

سوف يأكل طعامي.. ويبيت تحت سقفي

ألا يعلم إني رئيس العشارين؟

ألا يعلم مصدر تلك الوليمة؟

وذلك البيت؟

هل سيملأ بطنه الطاهرة بهذا المال الحرام، الذي يقولون عنه أنه لا يشبع بل يُلهِب الجوف؟

أية محبة ملأت قلبه من نحوي حتى يكون مستعداً أن يأكل من مالي الحرام دون أن يدينني أو يحرجني؟

هل أنا مستحق لهذا الحب؟

وماذا بي يستحق ذلك الإكرام؟

أطرق زكا بعينيه بعيداً وبدا وكأنه يتكلم لنفسه في الداخل بدون كلمات.....

عندما كنت أعود للبيت معذباً من تعييرات الأطفال، كنت أجري لاهثاً باحثاً عن حضن أمي

لكي أطفئ فيه نيران ألمي وخوفي. لكني كنت أجدها دائماً جالسة أمام الفرن. عاشت ستين سنة جالسة أمام الفرن!

كنت أجري لأرمي نفسي في حضنها فتنفر وتصرخ: "أفسدت العجين يا غبي!" "هل نجد القمح في الشارع؟!

" اذهب بدّل ملابسك واغتسل لكي "تتسمم" ثم تنام. لقد مللت منك ومن أبيك ومنكم كلكم!

فكنت أذهب أبدل ملابسي وأخلع أحزاني مع حذائئ وأضع على قلبي حجراً سميكاً حتى لا

يئن ولا يشعر. وبالفعل كنت "أتسمم"... لقد تسممت كل حياتي.

لقد أغلقت على قلبي بجدار سميك لكي لا أتألم. لكني أيضاً لم أكن أشعر. كما لم أشعر بالألم

لم أشعر أبداً بالسعادة، ولم يحن قلبي لأحد.

لم يرق قلبي لا للأرملة ولا لليتيم

انتزعت اللقمة الوحيدة من فم الفقير لأقتسمها مع الرومان ومع هيرودس

جمعت وجمعت لنفسي، وتباعد عن قلبي أكثر فأكثر أي شعور أو إحساس بنفسي أو بالناس

نعم كما يقول كاتب المزمور " سمن من الشحم قلبي" فلم أعد أشعر!

بنيت هذا البيت على فدانين كاملين من الأرض، وألحقت به حظائر للغنم والماشية ومعصرة

تنتج أفخر أنواع النبيذ.

بعد دقائق سوف يشرب يسوع من نبيذي

نعم نبيذي الذي صنعته من دم الفقراء والمساكين!

مالي الآن أشعر بشيء ما يتغير داخل قلبي

ذلك الجدار الحجري يتحرك.. ويرقّ !

أنا لم أبك منذ سن العاشرة.. ما للدمع يتجمع خلف مقلتي وكأنه في مظاهرة تضغط على باب

القصر لينفتح وينقلب الشعب على الملك!

مالي أرى الناس وكأنني قد استبدلت عينيّ بعينين أخريتين؟

ما لي أريد أن أحتضن الجميع؟ وأملأ الدنيا حُبّاً وقبلات؟!

ما لي أشعر لأول مرة بانسجام بين قلبي وعقلي!

ما للألوان قد أصبحت أكثر تلوناً !

والشمس أكثر إشراقاً!

ما لي أشعر بأني أملأ كل جسدي !

وافتخر بقصر قامتي!

مالي أرى عيناي في نفس مستوى عيون الناس لأول مرة!

ليست فوقهم أو تحتهم

لا أريد أن أكون فوق الجميع!

ولا أشعر إني أقل من الجميع!

ماذا فعلت بي نظرة يسوع هذا؟!

كيف قلب حالي وهو لم يقل كلمة! سوى أنه ينبغي أن يمكث في بيتي!

لم يعظني!

لم يطالبني برد المسلوب!

لم يربط بين دخوله تحت سقفي وتنظيفي لبيتي من الحرام.

إن كان هذا البار قد قبلني هكذا بوسخي وعاري، فلأنظفنّ نفسي إذاً !

وقف زكا وسط وليمة العشاء..ورفع الكأس

ظن الجميع أنه سوف يقترح نخباً ويتاجر بالأقوال

لكنه فاجئ الجميع إذا قال:

أنا لصّ

أنا واشِ محتال

سوف أرد الأموال!

تهاوى آخر حجر من جدار القلب السميك. لقد اعترفت !

لقد رفعت على قلبي هذا الحمل الثقيل الذي أثقل كاهلي لثلاثين سنة كاملة

تساقط كل إحساس بالذنب والعار عندما سردت أسوأ جزء من قصة حياتي أمام الجميع. لم يأت الليل بعد ولكني أشعر من الآن أنني سوف أنام الليلة ملء جفنيّ. أشعر أن قلبي الآن قد أصبح.. قطعة واحدة بعد أن كان لزمن طويل متشرذم منقسم.

عاجله يسوع بالتشجيع..

"اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك".

إذاً أنت كنت ستدخل بيتي وأنت تعلم من أين لي كل هذا.. أنت كل الوقت تعلم إني هالك وبحاجة للخلاص، ومع ذلك قلتَ أنه ينبغي أن تمكث في بيتي!

لقد كنت تعلم أن خلاصي لا يأتي بمجرد الاعتذار والندم. كان عليّ أن أرد المسلوب، ولم تطلب مني أن أفعل ذلك.

أنا ابن إبراهيم. أنا أعرف الشريعة. لقد وصلت لمسامعي بعض أركان الشريعة وأنا في الكتاب قبل أن أتحول "للعمل العام!" ..هه.. "العمل العام!" .. أقصد "السرقة العامة!"

لم يتكلم يسوع لأنه يعرف أن نظرته قامت بالعمل كله وقبوله قادر أن ينفذ إلى ذلك الطفل القابع داخل زكا العطشان للحب والقبول.

فيسوع ليس كالمتدينين

يسوع لا يتعامل بالدين

ولا يدين

هو لا يعرف سوى لغة الحب

تلك اللغة التي لم يعلمني إياها أحد من قبل

ولا أبي أو أمي

وهو بها قد علمني البر

وهو قادر بها أن يعلم البر للجميع !

Top of Form