Friday, March 30, 2007

زكا..... مسكين آخر لا تبدو عليه المسكنة


- " يا زكا...... أسرع وانزل....، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك!"

قال يسوع هذه العبارة غالباً بصوت عالٍ جداً ليسمعه زكا المعلق على شجرة جميز كبيرة وسط صخب جماهيري هائل. بعد أن قالها يسوع، ساد صمت لعدة ثوان لم تقطعه سوى همهمات اعتراض وصل بعضها إلى أذني يسوع وآذان تلاميذه.

- " إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ!"

- " هو لم يدعه.. لكن يسوع اختار أن يبيت عند أغنى الأغنياء.. طبعاً !"

- " لو كان هذا نبياً لعلم أن زكا هذا رئيس العشارين!"

- " هو يعلم أنه رئيس العشارين. هذا عيب يسوع. تعليمه جميل. كلامه به سلطان. معجزاته لم يعملها نبي قبله. لكن عيبه الوحيد هو تساهله هذا مع الخطاة. عموماً.. "الحلو ما يكملش" !

- " أنا محبط منه جداً... كنت أظنه باراً نقياً لا يختلط بالخطاة."

- "هذا رجل مخادع!"

- " إنه يعلم أن زكا غني. ويعلم أنه سيعد له وليمة عشاء فاخرة. عيب يسوع أنه يحب الولائم والطعام الشهي. كيف يتصور أحد أن من بدأ خدمته بالصيام لأربعين يوماً يكون هكذا أكولاً وشرّيب خمر، محباً للعشارين والخطاة!"

نزل زكا من فوق الشجرة والفرحة لا تسعه وصار يمشي وسط الناس بفخر وخيلاء فهو قد أصبح في غفلة من الزمن مضيف يسوع لهذه الليلة. أصطحب زكا يسوع وتلاميذه إلى بيته وهو يتمنى أن تراه الدنيا كلها يمشي متأبطاً ذراع يسوع. نعم يسوع.. الذي تتمنى كل اليهودية والسامرة والجليل وكل سورية أن تنعم بنظرة من عينيه.


صورة الرسالة الواردة من أورشليم من طرف يوليوس والي الجليل إلى المحفل الروماني بمدينة رومية إلى شزاريني أمير رومية.

إنه قد بلغني أيها الملك قيصر أنك ترغب معرفة ما أنا أخبرك به الآن فاعلم أنه يوجد في وقتنا هذا رجل سائر بالفضيلة العظمي يدعي يسوع وأن الشعب متخذة بمنزلة نبي الفضيلة. فبالحقيقة أيها الملك أنه يوميا يسمع عن يسوع هذا أشياء غريبة فيقيم الموتي ويشفي المرضي بكلمة واحدة وهو إنسان بقوام معتدل ذو منظر جميل للغاية له هيبة بهية جدا حتى أنه يلتزم من نظر إليه أن يحييه ويخافه وشعره بغاية الاستواء متدرج على أذنيه ومن ثم إلى كتفيه ترابي إنما أكثر ضياء وفي جبينه عره كعادة الناصريين ثم جبينه مسطوح وإنما بهج ووجهه بغير تجعيد بمنخار معتدل وفهمه بلا عيب وأما منظره فهو رائق ومستر وعيناه كأشعة الشمس ولا يمكن لإنسان أن يحدق النظر في وجهه نظرا لطلعة ضيائه في حينما يوبخ يرهب ومتي أرشد أبكي ويجتذب الناس إلى محبته. ....يمشي حافياً عريان الرأس فكثيرون إذ يرونه يهزءون به ولكن بحضرته وبالتكلم معه يرجف ويذهل. وقيل أنه لم يسمع قط عن مثل هذا الإنسان في التخوم وبالحقيقة كما تأكدت من العبرانيين أنه ما سمعت قط روايات عليه كمثل ما نعلم عن يسوع هذا وكثيرون من علماء اليهود يعتبرونه إلها ويعتقدون به وكثيرون غيرهم يبغضونه ويقولون أنه مضاد لشرائع جلالتك فترى فيّ قلقا من هؤلاء العبرانيين الأردياء. ويقال عنه أنه ما أحزن أحدا قط بل بالعكس يخبرون عنه أولئك الذين عرفوه واختبروه أنهم حصلوا منه على إنعامات كلية وصحة تامة. فإذا أنا بكليتي ممتثل لطاعتك ولإتمام أوامر عظمتك وجلالتك.

الإمضــــاء يوليوس لستوس والي اليهودية

أما اكتشاف هذا اللوح فكان سنة 1280م. بمدينة الويلا من أعمال نابولي أثناء البحث عن الآثار الرومانية وبقى فيها إلى أن وجده المندوبون العلميون الذين رافقوا الجيش الفرنسي حين انتشبت الحرب في جنوبي ايطاليا



صور من الماضي تقتحم ذاكرة زكا وهو يمشي مع يسوع

مجموعة من الأطفال الصغار العنفاء يتلفون حول زكا الصغير والغبار يملأ الجو

زكا يا قزعة.... يا قد النملة

مين قالك........تعمل دي العملة!

زكا يا قزعة.... يا قد النملة

مين قالك........تعمل دي العملة!

خلال تلك اللحظات تاهت نظرات زكا وكأنه يرى ما لا يراه أحد.

. ثم فجأة يعود بنفسه للحاضر وينظر إلى يسوع وابتسامة عريضة تملأ وجهه ويحاول أن يجد أي معلومات دينية أو فقرات كتابية يتجاذب بها أطراف الحديث مع هذا المعلم ذائع الصيت لكي يشعر ببعض "الاستحقاق" أن يكون مضيفه هو وتلاميذه هذه الليلة.

- أيها المعلم يسوع.. لقد علمت أنك تقول أن ملكوت السموات قد اقترب..هل معنى هذا أن الرومان قد أصبحت أيامهم معدودة بيننا؟ لقد سمعت أنك تتلو كثيراً نبوات إشعياء عن اقتراب الملكوت. أنت تعلم بالطبع أن إشعياء هذا عاصر أربعة ملوك كان آخرهم حزقيا الملك المُصلِح.

- نظر يسوع إلى زكا وابتسم في حنان ولم يقل شيئاً.


عادت نظرات زكا تنظر إلى الأفق وكأن روحاً غريباً تملّكه..

يرى نفسه طفلاً يعود وحيداً من "كُتّاب" أريحا للأطفال وخطّان من الدموع الجافة يمتدان من داخل مقلتيه في اتجاه طرفي فمه بعضهما لايزل مبتلاً لامعاً والبعض قد جف إلا أنه لا يزال ظاهراً. أما قلبه الصغير فيشهد تحولاً تدريجيا من الخزي إلى الألم ثم من الألم إلى الغضب ثم إلى المرارة. ثم إلى القرار والتصميم.

اندمج في تيار ذكرياته حتى أنه شدّ على قبضتيه وهو يمشي مع يسوع.

يتذكر زكا الآن أنه اتخذ قراراً حاسماً في الطفولة. وهو يتذكر الكلمات التي رنت في ذهنه وهو عائد للبيت في ذلك اليوم منذ أربعين سنة.

أحلف بالسماء والأرض أن يأتي اليوم الذي فيه أجعل كل هؤلاء يجثون لي ويستعطفوني. لا أعلم كيف، لكن أعلم إني سأفعل ذلك !

عاد ذهن زكا للحاضر قليلاً وتعجب. كيف استطاع يسوع أن يرى جسدي الصغير معلقاً على تلك الجميزة الهائلة وسط هذه الجماهير الغفيرة. لماذا قال أنه "ينبغي" اليوم أن يمكث في بيتي.

لعله كان يرى ما يدور بداخلي منذ أن سمعت به

وكيف أنني منذ تناهي إلى سمعي تعليمه من خلال زوجتي، لم أر للنوم طعماً وأشعر أن شيئاً ما خطأ في حياتي.

ألعله يعرفني جيداً؟ العله يعرف ما أفكر فيه؟ ألعله يعرف شريط الذكريات الذي تأتي صوره متدافعة في ذهني الآن؟

لم يكن زكا سوى طفل صغير وُلِدَ منذ خمسين عاماً في قرية مجاورة لأريحا لا يرغب من الحياة سوى أن يُحِب وأن يُحَب

ولكنه عندما يجد الحب الحقيقي، اضطر ككثيرين غيره أن يبحث عن بدائل.

وصلت لزكا مثلما وصلت للكثيرين رسالة مفادها أنه لا مكان ولا حب ولا احترام في هذه الحياة سوى للأقوياء، علاة المقام,.

لا مكان تحت الأضواء إلا للجريئون والجميلات، طوال القامة ممشوقي القوام

فإن لم تستطع أن تكون من طوال القامة، فلتكن من علاة المقام !

وإن لم تستطع أن تُحسَب مع الأغنياء فلتزاحم الخدّام!

وإن لم تكن من الموهوبين في الأفعال والإبداع، فلتكن من أصحاب الكلام والإقناع!

لا بد لكي يكونه مكاناً بين الجموع، أن تفعل شيئاً يستحق الاهتمام

يجب لكي يلاحظك الناس أن تعتلي برجاً أو شجرة أو تقف فوق كومة من المال أو وسط "شلة" من الاصدقاء.

فكر زكا في قلبه...

لكن مالي ونفوذي لم يجتذب يوماً نوعية يسوع، بل على العكس، كان هؤلاء ينفرون مني ويلقبونني بالسارق الخائن.

لم أعجب يوماً طائفة الروحانيين المتدينين ولا حتى طائفة السياسيين الثوار الراغبين في تغيير الأمور.

كان المنتمون لتلك الطائفتين هم الوحيدين الذين لا يتملقوني. ولكم كنت أتمنى أن أضمهم أيضاً إلى مجموعة المنتفعين من صداقتي الخاطبين ودّي. وها أنا الآن قد ظفرت بأفضل من فيهم وأكثرهم شهرة ومجداً حتى أن مدناً بأكملها كانت تخرج لتمشي وراءه. هو الآن يمشي بجانبي ذاهباً إلى بيتي.

من مثلي في هذه الدنيا !

لقد حصلت على كل شيء

لقد حققت أملي القديم. بل ما هو أكثر منه!

بعد أن كان زملائي في "الكتّاب" يجرون ورائي ليلقوني بالأحجار ويتهكموا على قصر قامتي، ها هي إريحا كلها تمشي ورائي في غيرة وحنق وأنا أتقدمهم متأبطاً ذراع يسوع.

لكن... لكن لا يزال شيئاً صغيراً فغي أعماق قلبي لا يريحني تماماً

.. عندما التقت عيناي بعيناه وأنا فوق الشجرة، رأيت شيئاً لم أره من قبل في حياتي.

لم أر الغيرة والإعجاب الذان أستطيع تمييزهما في عيون كل الناس من كثرة ما رأيتهم. كما لم أر الضيق والدينونة والاحتقار الذي كنت أراه في عيون المتدينين. رأيت شيئاً لم أره من قبل.. سهمان من عيناه اخترقاني وكأنهما يعرفان طريقهما جيداً إلى سويداء القلب!

ربما هذين السهمين هما الذي فتحا عليّ خزانة الذكريات والصور القديمة التي تأتي إليّ من غياهب الطفولة...

لا يهم كل هذا الآن.

كل ما يهمني هو أن أحتفظ بيسوع بين يدي حتى يدخل تحت سقفي. أتمنى ألا يصادفه مريض أو شخص ملبوس بروح شرير فيقضي الأمسية معه ويعتذر لي بأدب. كما أتمنى ألا يبدأ في تعليم هذه الجموع حتى تغيب الشمس أو أن ينصرف عني في منتصف الطريق ويذهب إلى الجبل ليمضي الليل كله في الصلاة. أنا أعلم أن سلوكياته غير متوقعة دائماً.

هل من المعقول أن يفعل ما قاله.. أن يبيت تحت سقفي؟!

ويأكل في بيتي !

هل من المعقول أن يكون بيتي الذي ينعته الفريسيون بالنجاسة هو مكان إقامته أثناء زيارته لأريحا؟

لا أظن!

أكيد سوف يعتذر لي في منتصف الطريق خوفاً على سمعته وخدمته!

ولكني لن أتركه يمضي. سوف أتعلق به ولن أتركه إلى تحت سقفي وأمام مائدتي.

رتب الخدم المائدة.

ربما كانت أفخر الموائد التي مُدّت في أريحا في الفترة الأخيرة. لم ينقصها شيء من أطايب الطعام والشراب.

الجميع سعداء...

رائحة الشواء اللذيذة تتصاعد من الخروف متوسط العمر الذي اتخذ مكانه المميز في وسط المائدة..

كان زكا لأول مرة منذ فترة طويلة.. سعيداً!

لكن شيئاً ما قوياً كان يحدث في أعماقه ويلهب قلبه كما ألهبت نار الشواء ذلك الخروف الذي سوف ينشغل الجميع بالتهامه بعد دقائق.

تلك النظرة...

يا لها من نظرة....

لقد قلبت كياني هذه النظرة..

ليست النظرة فقط..

لقد أعلن استعداده أن يدخل بيتي دون أن أتوب!

لم يسألني إن كانت أموالي التي سوف أستضيفه بها "حلالاً" أم "حرام!"

لم يهتم!

سوف يأكل طعامي.. ويبيت تحت سقفي

ألا يعلم إني رئيس العشارين؟

ألا يعلم مصدر تلك الوليمة؟

وذلك البيت؟

هل سيملأ بطنه الطاهرة بهذا المال الحرام، الذي يقولون عنه أنه لا يشبع بل يُلهِب الجوف؟

أية محبة ملأت قلبه من نحوي حتى يكون مستعداً أن يأكل من مالي الحرام دون أن يدينني أو يحرجني؟

هل أنا مستحق لهذا الحب؟

وماذا بي يستحق ذلك الإكرام؟

أطرق زكا بعينيه بعيداً وبدا وكأنه يتكلم لنفسه في الداخل بدون كلمات.....

عندما كنت أعود للبيت معذباً من تعييرات الأطفال، كنت أجري لاهثاً باحثاً عن حضن أمي

لكي أطفئ فيه نيران ألمي وخوفي. لكني كنت أجدها دائماً جالسة أمام الفرن. عاشت ستين سنة جالسة أمام الفرن!

كنت أجري لأرمي نفسي في حضنها فتنفر وتصرخ: "أفسدت العجين يا غبي!" "هل نجد القمح في الشارع؟!

" اذهب بدّل ملابسك واغتسل لكي "تتسمم" ثم تنام. لقد مللت منك ومن أبيك ومنكم كلكم!

فكنت أذهب أبدل ملابسي وأخلع أحزاني مع حذائئ وأضع على قلبي حجراً سميكاً حتى لا

يئن ولا يشعر. وبالفعل كنت "أتسمم"... لقد تسممت كل حياتي.

لقد أغلقت على قلبي بجدار سميك لكي لا أتألم. لكني أيضاً لم أكن أشعر. كما لم أشعر بالألم

لم أشعر أبداً بالسعادة، ولم يحن قلبي لأحد.

لم يرق قلبي لا للأرملة ولا لليتيم

انتزعت اللقمة الوحيدة من فم الفقير لأقتسمها مع الرومان ومع هيرودس

جمعت وجمعت لنفسي، وتباعد عن قلبي أكثر فأكثر أي شعور أو إحساس بنفسي أو بالناس

نعم كما يقول كاتب المزمور " سمن من الشحم قلبي" فلم أعد أشعر!

بنيت هذا البيت على فدانين كاملين من الأرض، وألحقت به حظائر للغنم والماشية ومعصرة

تنتج أفخر أنواع النبيذ.

بعد دقائق سوف يشرب يسوع من نبيذي

نعم نبيذي الذي صنعته من دم الفقراء والمساكين!

مالي الآن أشعر بشيء ما يتغير داخل قلبي

ذلك الجدار الحجري يتحرك.. ويرقّ !

أنا لم أبك منذ سن العاشرة.. ما للدمع يتجمع خلف مقلتي وكأنه في مظاهرة تضغط على باب

القصر لينفتح وينقلب الشعب على الملك!

مالي أرى الناس وكأنني قد استبدلت عينيّ بعينين أخريتين؟

ما لي أريد أن أحتضن الجميع؟ وأملأ الدنيا حُبّاً وقبلات؟!

ما لي أشعر لأول مرة بانسجام بين قلبي وعقلي!

ما للألوان قد أصبحت أكثر تلوناً !

والشمس أكثر إشراقاً!

ما لي أشعر بأني أملأ كل جسدي !

وافتخر بقصر قامتي!

مالي أرى عيناي في نفس مستوى عيون الناس لأول مرة!

ليست فوقهم أو تحتهم

لا أريد أن أكون فوق الجميع!

ولا أشعر إني أقل من الجميع!

ماذا فعلت بي نظرة يسوع هذا؟!

كيف قلب حالي وهو لم يقل كلمة! سوى أنه ينبغي أن يمكث في بيتي!

لم يعظني!

لم يطالبني برد المسلوب!

لم يربط بين دخوله تحت سقفي وتنظيفي لبيتي من الحرام.

إن كان هذا البار قد قبلني هكذا بوسخي وعاري، فلأنظفنّ نفسي إذاً !

وقف زكا وسط وليمة العشاء..ورفع الكأس

ظن الجميع أنه سوف يقترح نخباً ويتاجر بالأقوال

لكنه فاجئ الجميع إذا قال:

أنا لصّ

أنا واشِ محتال

سوف أرد الأموال!

تهاوى آخر حجر من جدار القلب السميك. لقد اعترفت !

لقد رفعت على قلبي هذا الحمل الثقيل الذي أثقل كاهلي لثلاثين سنة كاملة

تساقط كل إحساس بالذنب والعار عندما سردت أسوأ جزء من قصة حياتي أمام الجميع. لم يأت الليل بعد ولكني أشعر من الآن أنني سوف أنام الليلة ملء جفنيّ. أشعر أن قلبي الآن قد أصبح.. قطعة واحدة بعد أن كان لزمن طويل متشرذم منقسم.

عاجله يسوع بالتشجيع..

"اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك".

إذاً أنت كنت ستدخل بيتي وأنت تعلم من أين لي كل هذا.. أنت كل الوقت تعلم إني هالك وبحاجة للخلاص، ومع ذلك قلتَ أنه ينبغي أن تمكث في بيتي!

لقد كنت تعلم أن خلاصي لا يأتي بمجرد الاعتذار والندم. كان عليّ أن أرد المسلوب، ولم تطلب مني أن أفعل ذلك.

أنا ابن إبراهيم. أنا أعرف الشريعة. لقد وصلت لمسامعي بعض أركان الشريعة وأنا في الكتاب قبل أن أتحول "للعمل العام!" ..هه.. "العمل العام!" .. أقصد "السرقة العامة!"

لم يتكلم يسوع لأنه يعرف أن نظرته قامت بالعمل كله وقبوله قادر أن ينفذ إلى ذلك الطفل القابع داخل زكا العطشان للحب والقبول.

فيسوع ليس كالمتدينين

يسوع لا يتعامل بالدين

ولا يدين

هو لا يعرف سوى لغة الحب

تلك اللغة التي لم يعلمني إياها أحد من قبل

ولا أبي أو أمي

وهو بها قد علمني البر

وهو قادر بها أن يعلم البر للجميع !

Top of Form

Wednesday, March 28, 2007

المرأة التي أمسكت في ذات الفعل...... إحدى المسكينات بالروح

يا له من لقب لُقِّبَت به هذه المرأة !

هذا هو اللقب الذي نلقبها نحن به. لكن ترى ما هو اللقب التي لقبها به يسوع؟

أظن أن اللقب الذي كان يسوع سوف يختار أن يدعوها به هو لقب المرأة التي لم يدنها يسوع!

كان اختلاط يسوع بالعشارين والزناة وكل أنواع الخطاة يلقي عليه بظلال شكوك عن موقفه من الزنى ومن الخطية بصفة عامة. لم يستطع معاصروه أن يقبلوا في أذهانهم المغلقة، كيف يمكن ليسوع أن يقبل الخطاة ويأكل معهم ويبيت في بيوتهم وفي نفس الوقت لا يقبل خطيتهم. ربما كثر الكلام حول يسوع أنه معلم "متحرر" لا يمانع في الجنس قبل الزواج أو حتى في الزنى وموقفه من الكتب المقدسة موقف "غير تقليدي".

الشريعة المكتوبة والمقدسة تقول: " من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق" وهو يقول: "موسى" أذن لكم أن تطلقوا نساءكم!

ما موقف هذا المعلم من الزنى؟

ما موقفه من الزواج والطلاق؟

ما موقفه من "عصمة الكتاب المقدس"؟

ما موقفة من العلاقة بالسلطة الرومانية، وهل ينبغي أن تُعطَى جزية لقيصر أم لا، إن كان يخالط العشارين!

على هذه الخلفية، اتفق بعض الكتبة والفريسيين، الذين لا تخلوا أيضاً قلوبهم من "غيرة مهنية" على أن يقطعوا الشك باليقين ويُظهروا أمام الناس أجمعين كيف أن يسوع لا يعارض الزنى بالقوة التي ينبغي أن يعارضه بها كمعلم للناموس. كانوا يعلمون أن يسوع رقيق القلب و يتجنب أن يدين الناس، فأرادوا أن يستغلوا رقة قلبه هذه و يستخدموها ضده ليتهموه بأنه لا يدين الزنى، أو بتعبير إنجيل يوحنا " ليجربوه، ليكون لهم ما يشتكون به عليه" (يو 8: 6).

ولكي لا يتركوا مهرباً ليسوع، لم يأتوا بامرأة هناك شكوك غير مثبتة في سلوكها، وإنما أتوا بامرأة قد أمسكت في ذات الفعل. إذا لم يدنها يسوع، فعندئذ يكون موقفه من الزنى واضح. لن يستطيع أن يقول أنهم يفترون عليها أو أن هذه مجرد شكوك أو شائعات.

ها هي امرأة ثابت زناها.. إن لم يدنها يسوع، فمن يدين إذاً؟

إن كان يدين الزنى فسيدينها وإن لم يدنها فهو لا يدين الزنى!

جاءوا بها، وهو يعلم ما في قلوبهم...

ماذا فعل يسوع؟

قبل أن أقول ماذا فعل يسوع. أحب أن أسأل نفسي أولاً ما كنت سأفعل أنا؟

ربما خوفاً على سمعتي و"خدمتي" سوف أهتم أولاً بإبراء نفسي من تهمة تشجيع الزنى. وإذا منعتني رقة قلبي من أن أغلظ لها العقاب لأبرر نفسي من هذه التهمة، فعلى الأقل سوف أبادر وقبل أن أفعل أي شيء حيالها أو حيال من أتوا بها، و أقول: "ليكن معلوماً أمام الجميع، أني أدين الزنى."

لكن لم يفعل يسوع ذلك!

ربما كنت سألتفت إليهم وأعدد خطاياهم وبدلاً من أدين هذه المرأة المسكينة، أدينهم هم. ولم لا؟ فالعين بالعين والسن بالسن. وقد بدأوا هم بإدانتها، فهم إذاً مستحقين للدينونة..

لكنه لم يفعل ذلك !

ماذا فعل يسوع؟

قبل أن نسأل ماذا فعل يسوع، دعونا نسأل أولاً:

فيمن كان يفكر يسوع؟

بمن كان يشعر يسوع؟

فمن هناك نبع ما فعله...

ما فعله يسوع جاء نتيجة لكونه قد سأل نفسه أولاً: بم تشعر هذه المرأة؟ وفيم تفكر الآن؟.، وماذا سيكون تأثير كلامي عليها؟ إذا بادرت بتأكيد رفضي للزنى، هل ستفهم ما أقول فهماً موضوعياً و لا تعتبر دينونتي للزنى دينونة لها؟ لا أظن أن امرأة في ظروفها الآن قادرة على التفكير الموضوعي!

"إذاً ماذا أفعل؟" ربما سأل يسوع نفسه هذا السؤال.

- لن أدين الزنى، لأن هذه المرأة سوف تشعر أنني أدينها هي، وهي لن تحتمل. سوف أضحي بأن يُطلق عليّ مناصراً للزنى ولن أدينها أو أُعيرها.

- لكني لا أقبل الزنى!

- ماذا أفعل؟!

- عرفتُ ما سأفعله.. سوف لا أعلن موقفي من الخطية بإدانة الخطية. سوف أعلن موقفي من الخطية بإدانة الدينونة!

- نعم... سأقول: " من منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر"

- سوف لا يعني كلامي هذا أنها بلا خطية، ولكنه سيعني أنهم كلهم خطاة ولماذا يدين خاطئُ خاطئَ آخر؟! سوف يكون معنى كلامي أنها خاطئة، ولكن لن يكون هذا دينونة مباشرة لها.

- إذا قلت هذا الكلام، سوف يكون عليّ أن ألقيها أنا بالحجر، وإن لم أفعل فسيكون هذا إعلاناً مني أني خاطئ. كيف أفعل ذلك وقد تحديت الفريسيين من قبل وقلت لهم: "من منكم يبكتني على خطية!" سوف أبدو منافقاً.

- لا يهمني.... لن أدينها مهما كان!

- نعم.. سوف يكون هذا أقوى إدانة مني للإدانة! وفي نفس الوقت.. لن يكون قبولاً بالخطية. .. سأقولها!

و بعد أن قالها يسوع ومن خلالها أخلى الساحة من كل المشتكين وأصبح هو وهي وجهاً لوجه. وراح يفكر..

- ماذا أقول لها الآن؟

- ما هي الرسالة الأكثر أهمية التي أريد أن أرسلها لهذه المرأة المفضوحة المغطاة بالعار والذل؟

- هي لم تتب؟ ولكنها لم تدافع أيضاً ولم تبرر

- هي مفضوحة... وهي أيضاً مفتوحة ويمكن أن تستقبل أي شيء. لقد كانت مستعدة لاستقبال الموت.. فهي ستستقبل أي شيء أقوله لها ولن تعارض.

- هل أتلو عليها آيات عن الزنى أو موعظة عن كراهية الله للزنى؟ أم ألقي عليها محاضرة عن أخطار الأمراض المنقولة جنسياً؟!

- أنا الآن أمام إنسانة سوف تقبل كل ما أقول ولن تبرر أو تراوغ.. خاصة بعد أن أنقذتها من الموت.. سوف تطيعني في أي شيء.

- أه .. نعم.. هذه فرصتي لكي أعدل من سلوك هذه المرأة.. سوف أقول لها ألا تخطئ ثانية.. وبهذا أضمن أنها لن تعصى من أخرجها من براثن الرجم.

- "لا.. انتظر قليلاً" قالها يسوع لنفسه!

- ثم سأل نفسه:" ربما سوف ترغب في طاعتي. لكن من أين ستأتي هذه المرأة بالقوة لتنفيذ الوصية.. لقد كسر العار قلبها. لقد سحقت الفضيحة والدينونة كل رغبها لها في الحياة، فكم بالحري الرغبة في الحياة الفاضلة!"

- سوف أقول لها ألا تخطئ أيضاً . ولكني يجب أن أشفي قلبها أولاً من العار.

قال يسوع: " ولا أنا أدينك."

يا لتأثير هذه العبارة الصغيرة!

يا لها من بلسم شاف للعار وجامع لشتات القلب المكسور!

فهي مِن مَن؟

إنها من يسوع. شافي الأمراض ومقيم الموتى

إنها من يسوع الذي يحلم الجميع بلقاءه ولمس حتى طرف ثوبه

إنها مِن الذي تجرأ لتوه وأعلن أن من هو بلا خطية، يمكن أن يرميها بحجر ولم يرمها.

إنها من الشخص الذي قد أحبها للدرجة التي بها خاطر أن يحسب خاطئاً بالرغم من أنه ليس بخاطئ

حتى إن دانتي الدنيا كلها، فلن يهمني! هو لا يدينني!

يكفيني أنه لم يدنّي. سوف أحبه وأخدمه طوال عمري حتى وإن قالوا أن بيننا قصة حب أو حتى أننا تزوجنا!

هذا يكفيني.. ويشفي قلبي.. ويعلمني من جديد أن أحب الحياة!

لن أحتاج لما كنت أفعله. سواء كنت أفعل ذلك من أجل المال. أم من أجل القوة والسيطرة.. أم من أجل الحب والاهتمام. فأنا الآن غنية عن كل هذا!

وبعد أن شفى يسوع قلبها

قال لها ما كان ينوي أن يقوله: " اذهبي ولا تخطئي أيضاً"

قالها لها وحدهما لأنه لم يقلها لكي يبرر نفسه أو يقاوم المشتكين

ولكن لأنه يحبها ويريد أن يحميها مما تفعل

يا لحظ هذه المرأة !

طوباها.. إن لها ولمثيلاتها ملكوت السموات!

Tuesday, March 13, 2007

الابن الضال.. أحد المساكين بالروح



منذ عدة سنوات وفي كلية اللاهوت درست أحد المناهج الدراسية للعهد الجديد بعنوان "أمثال المسيح" وكان المدرس وقتها هو القس الدكتور عاطف مهني. في هذا المنهج الدراسي تعرفت على أحد أهم علماء العهد الجديد والمتخصص في تفسير الأمثال وهو يواقيم هيرمياس. ولهيرمياس نظرية هامة في تفسير أمثال المسيح القصصية وهي أن عالم المثل والعالم الروحي الذي يستخدم المثل لشرح أحد مفاهيمه، يتصلان في نقطة واحدة فقط. وأن محاولة إيجاد أكثر من نقطة أو إدخال العالم الروحي إلى عالم المثل أكثر من اللازم يفسد المثل. ولعل تفسير أوريجانوس لمثل السامري الصالح ابرز مثال لذلك فهو قد بالغ في التفسير وحاول إعطاء كل جزئية في المثل رمزاً روحياً فأصبح الزيت الذي صبه على جروح اليهودي يشير للروح القدس والخمر إلى التناول ثم الدينارين الذين أعطاهما السامري لصاحب الفندق يشيران إلى العهدين القديم والجديد! وهكذا فُقِد المعنى الأساسي للمثل وهو محبة القريب مهما كان جنسه أو خلفيته.

وعندما طبقت هذه النظرية على أحد الأمثال الشهيرة وهو مثل الابن الضال. الذي يصور كيف يتعامل الله مع المساكين بالروح.. فالابن الضال هو أحد أهم الأمثلة الإنجيلية عن المساكين بالروح. عندما طبقت هذه الطريقة في التفسير على هذا المثل، اكتشفت أنني، مع كثيرين، نرتكب دون أن ندري خطأً فادحاً ضد هذا المثل وضد أنفسنا والصورة التي نرى الله وطبيعة موقفه من نحونا نحن البشر.

َالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. 12فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. 13وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. 14فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. 15فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. 16وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. 17فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! 18أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ 19وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. 20فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. 21فَقَالَ لَهُ الاِبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. 22فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ 23وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ 24لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ. 25وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً 26فَدَعَا وَاحِداً مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟ 27فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. 28فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. 29فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. 30وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ. 31فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. 32وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ».

بدأ يسوع المثل بكلمة "إنسان" كان له ابنان. إذاً نحن نتكلم عن إنسان وليس عن الله. ونريد أن نعيش مع هذا الإنسان قصته لنتعلم عن هذا "الإنسان" شيئاً وهذا الشيء الواحد هو وجه الشبه بينه وبين الله وهذه هي النقطة التي يريد الرب يسوع أن يعلنها عن الله والتي من أجلها ساق هذا المثل.

هذا أب في ثقافة فلسطين القروية منذ ألفي عام. ما هي سمات هذا الرجل، كما يظهر من سرد المثل؟

هو رجل عادل. عندما طلب الابن الأصغر ميراثه، قسم لهما، أي للأصغر والأكبر معاً كل معيشته، وهذا على عكس الأعراف المتبعة في ذلك ا لوقت.

هو أيضاً غير مسيطر ويعطي الحرية كاملة لولديه أن يفعلا ما يشاءان. حتى الابن الأكبر أعطاه نصيبه لكي لا يبقى في البيت انتظاراً للميراث.

هو يحب ابنه مهما كان وليس عندما يتوب فقط. وهذه هي النقطة ا لتي نفقدها عندما، لا شعورياً، نعتبر أن هذا الرجل هو الله. كيف ذلك؟

يذكر الرب يسوع لنا لقطة للابن الأصغر في الكورة البعيدة وهو يرجع إلى نفسه ويدرك حقيقة أن أباه رجل صالح وأن البقاء في البيت أفضل من هذا المكان ويقرر العودة للبيت والعمل أجيراً لدى أبيه. ثم يتحول المشهد إلى الابن الأصغر عائداً والأب لا يزال بعيداً (لا يعرف سبب عودته)

وعندما يركض الأب ويقبله، نحن نفترض أن الأب (لكونه الله العالم بكل شيء) يعرف أنه جاء تائباً نادماً. بينما الحقيقة هي أنه، كإنسان، لا يعرف إن كان الولد عاد تائباً أم عاد ليطلب مالاً إضافياً ويعود من حيث أتى. وهذا يجعلنا بصورة خبيثة نعتبر أن الله يحب التائبين فقط، وكأن التوبة شرط للقبول والمحبة، فلا نستوعب أن محبة الله غير مشروطة ولا بالتوبة !

أمر آخر أهم، هو أننا عندما نسمع الأب يقول العبارة الشهيرة: " ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد." نتذكر فوراً أفسس 2: 1 ونفترض أنه يقصد أن ابنه كان "ميتاً بالذنوب والخطايا، وعاش أي عاد تائباً!" وأن كلمة ضال تعني الضلال الروحي. وهذا أيضاً يجعلنا نعتبر أن الله يحبنا عندما نعود عن ضلالنا وهو لا يحبنا ونحن في الخطية، بل سيبدأ في محبته لنا عندما نتوقف عن خطيتنا ونعود. لكننا إن عدنا وأدركنا أن هذا الرجل ليس الله! فسوف ندرك أنه لم يكن يعلم إن كان ابنه لا يزال حياً أم مات. فالمفقود لفترة طويلة يعتبر في عداد الأموات وهذا هو المقصود بعبارة "ميتاً فعاش" ـ فكأن الأب يقول: " بعد أن غاب كل هذه المدة الطويلة، حسبته في عداد الأموات، ولكن ظهر الآن فجأة أنه حيّ فكأنه قد قام من الأموات. وكان ضالاً تائهاً بعيداً عني فوجدته."

هذا الأب إنسان فهو لم يكن يعلم إن كان ابنه حياً أم لا ولم يكن يعلم مكانه وهو أيضاً لا يعلم، ولا يهمه الآن أن يعلم سبب مجيئه. كأب يحب ابنه، كل ما يعنيه الآن هو أن ابنه حي! و هناك شيئاً واحد يراه الآن هو أنه ينبغي أن يفرح ويسر لأن ابنه حيّ. لهذا السبب اعتبر الأب أي كلام عن التوبة والخطية والندم، محض سخف. أيضاً اعتبر عدم دخول الابن الأكبر للحفل أمراً شديد الألم و اهتمامه بأن أخاه بدد المال مع الزواني أمر لا مكان له في ذلك الموقف. بالإضافة إلى كل ذلك، ذلك الظلم الذي يوجهه الابن الأكبر للأب قائلاً له أنه لا يعطيه جدياً ليفرح مع أصدقائه مع أنه بالفعل قسم لهما كل معيشته من قبل!

ومع كل ذلك خرج إليه أيضاً كما خرج لأخيه الأصغر. و نلاحظ أن الأب عندما خرج للابن الأكبر لم يحاول أن يدافع عن ابنه ويؤكد توبته. لكنه لم يقل إلا تلك العبارة التي قالها للعبيد عندما أمرهم بالإعداد للاحتفال: " أخاك كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد."

كل ما يراه ا لأب هنا هو ابنه وليس أعمال ابنه! وهذا منطقي بالنسبة لأي أب في موقف مثل هذا.

تخيلوا معي مثلاً جندياً مصرياً كان يحارب في حرب الخليج الأولى في 1991 ولم يعد حتى الآن. المنطقي، بل القانوني هو أن يحسب في عداد الأموات، ويُسمح لزوجته أن تتزوج من غيره. لأنه قانوناً ميت. فإذا بنا نجده يقرع على باب بيته. ماذا يكون رد فعل أهله؟ وكم يكون سخيفاً أن أول ما يقوله هو أن يعتذر عن غيابه طيلة هذه السنوات أو يعترف بأخطاء ارتكبها عندما كان في الكويت أو العراق!

ما أهمية ذلك المنظور الإنساني بالنسبة لفهم المثل؟

المعنى الوحيد أو النقطة الوحيدة التي تصل المثل بالعالم الروحي هي أن الله كأب يحب أولاده ويهتم بهم أكثر مما يهتم بما يفعلونه. وإن كان يهتم بما يفعلونه فذلك لكونه يحبهم هم. هذا هو جوهر الإنجيل. القبول غير المشروط بأي شيء ولا حتى التوبة. لكن التوبة هي الفعل الإنساني الذي به يأخذ الإنسان هذا الحب وذلك القبول.

من هذا المثل ينشأ دائما سؤالان:

السؤال الأول: إن كان هذا الأب يحب ابنه هكذا وغير مهتم إلا به هو شخصياً، لماذا لم يرسل له مالاً وطعام إلى حيث هو؟ عندما سألت هذا السؤال لمجموعة من المدمنين، لم يكن رد أحدهم لاهوتياً متعمقاً، لكنه كان شديد العملية. قال لي ببساطة: " ما ينفعش يا دكتور!" فسألته: "لماذا؟" فقال: "لأنه كان سيبيع هذه الأشياء ويتعاطى بثمنها مخدرات!" هذه الإجابة برغم بساطتها شديدة العمق. فإذا لم يتغير توجه الإنسان ويعود إلى نفسه ويتوب، لن يستطيع التمتع بالمحبة. المحبة ليست بشرط التوبة ولكن التوبة هي شرط للقدرة على ا لتمتع بالمحبة. فقط في البيت يمكنه الاستمتاع بهذا الاحتفال!

السؤال الثاني، وهو مبني على الأول ويوجه عادة في صورة اعتراض: "إذاً المحبة ليست غير مشروطة تماماً، المحبة مشروطة بالعودة. العودة ليست شرطاً للمحبة ولكنه شرطاً لاستقبال المحبة. لابد أن يعود الولد بمحض إرادته ليستقبل الحب. وإذا قمنا بإلغاء هذا الشرط، فإن البديل الوحيد هو أن يرغم الأب ابنه على العودة، وهنا تنتفي صفة أخرى لا تقل أهمية في علاقة هذا الأب بأبنائه وهي الحرية. الله كما أنه خلقنا نحتاج للحب وللعلاقة، فإنه خلقنا أيضاً أحراراً ولن نستوعب أي محبة بدون حرية. الله يعيش توازناً دقيقاً بين الحب والحرية. هو يحب. ولكنه لا يفرض محبته. فهو يعطي الحرية ويدفع ثمنها كما ندفع ثمنها نحن أيضاً فهو يتعذب عندما تأخذنا حريتنا بعيداً عنه!

أهمية إدراك المحبة غير المشروطة للشفاء من مرض الخطية وكل الأمراض

الأساس في الخطية، وخاصة المزمن (الإدماني) منها هو الشعور بالعار وصغر النفس. الإنسان بسبب فقر الحب غير المشروط (خاصة في الطفولة) يشعر أنه بلا قيمة وأن أحداً لن يهتم به أو يرعاه. والإنسان يحتاج للقبول والحنان لكي يعيش. تشير الكثير من أبحاث المخ إلى أن بالمخ تنظيماً خاصاً باللذة والفرح يسمى مركز اللذة. هذا التنظيم يتم برمجته وضبط وظيفته من خلال الحب والرعاية والارتباط بين الطفل وبين الكبار (الأب والأم) وبعد ذلك يستطيع الإنسان بنفسه أن يضبط إيقاع مخه الوجداني ويسمح لنفسه باللذة في الحدود غير المضرة، كما يعرف كيف يؤجل اللذة إذا كان تأجيلها مفيداً له على المدى البعيد.

عندما لا يستطيع الإنسان أن يفعل ذلك يشعر بالخزي والعار والضعف لأنه لا يشعر أن أحداً يحبه، كما أنه لا يستطيع التحكم في نفسه، ومن هنا يلجأ إلى الأشياء الخارجية لكي يضبط إيقاع عقله ومشاعره. ويكون شعاره. إن كان أحداً لا يحبني، فسوف أحب نفسي بنفسي. سوف أستخدم المخدرات أو الطعام أو الجنس أو العلاقات العاطفية أو أي شيء لكي يكون عوضاً لي عن هذا الشعور بالخزي والذل الناتج من الرفض. في سفر أيوب يصور أليهو هذه الصورة بالعبارة: " احذر. لا تلتفت إلى الإثم، لأنك اخترت هذا على الذل." (أيوب 36: 21) كثيراً ما يكون الذي دفعنا للإثم هو شعورنا بالذل. لذلك من المهم جداً للعودة عن طريق الخطية، أن يشعر الإنسان بأنه مقبول حتى في أحلك لحظات ضعفه و خطيته. مثل هذا القبول يمحو تدريجياً العار الذي يكسر القلب ويسبب كل أنواع المرض ــ " العار كسر قلبي فمرضت" (مز 69: 20)

طوبى للمساكين بالروح

المساكين بالروح

الكلمة اليونانية المترجمة "المساكين" هي كلمة Ptwcoi وهي جمع كلمة Ptwcos وهي تعني ببساطة الفقير أو الشحاذ. وهي نفس الكلمة المستخدمة في متى 19: 21 " إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء." وأيضاً 26: 11 " لأن الفقراء معكم في كل حين."

المعنى ببساطة هو أن ملكوت السموات يقبل الفقراء روحياً. وعلى حد تعبير دالاس ويللارد المعنى الحقيقي لهذه التطويبة هو " طوبى للأصفار روحياً" Blessed are the spiritual Zeros هؤلاء الذين من وجهة نظر المؤسسة الدينية بعيدين تماماً عن الله. الذين لا يعرفون الكتاب، ولا الناموس والشريعة. الذين يعيشون في الخطية والشر. الذين لا يفكر فيهم أحد إذا ما ذكر العمل الروحي. بالطبع لا يقصد الرب أن يقول" "اذهب وكن كذلك!" أو أن التطويبات هي قائمة بالمقبولين في ملكوت السموات، ولكنه يريد أن يقول أن ملكوت السموات قد اقترب حتى أن مثل هؤلاء أصبحوا مقبولين وأصبح لهم مكان.

لقد حار الجميع في ترجمة هذا التعبير " المساكين بالروح" فتارة يترجم على أنه التواضع وتارة أخرى على أنه الشعور بالاحتياج الروحي، وتارة ثالثة على أنه الزهد والنسك. والمشكلة المشتركة في كل هذه التفسيرات هي أنها ليست مجرد تفسيرات غير دقيقة، وإنما هي العكس تماماً مما يقصده المسيح. لقد كان يسوع يقول أن الملكوت متاح للجميع. ونحن بتفسيراتنا نضع شروطاً للملكوت!

أما بالنسبة لتصرفات يسوع، فلم تأت إلا مؤيدة لتعليمه. فهاهو يقرر أن يبيت عند رجل خاطئ (زكا) دون أن يكون لذلك الرجل أي مؤهل روحي من أي نوع، وها هو يمد يده ليقيم المرأة التي أمسكت في ذات الفعل ويقول لها: "و لا أنا أدينك!" ويقف وقتاً طويلاً مع امرأة سامرية مزواجة، ويثني على إيمان قائد المائة الروماني والمرأة الفينيقية. لقد اقترب ملكوت السموات ونزل إلى ما هو تحت أسفل السافلين ليرفع الجميع.

ليست الرسالة توبوا و أصلحوا من حالكم لأن العقاب قد اقترب. ولكن الرسالة هي أن ملكوت الله قد اقترب منكم وبه مكان لكل واحد فيكم فادخلوه!

He’ll do whatever, whatever it takes

His Grace reaches lower than your worst mistakes!

التطويبات ــــــــــــ الملكوت للجميع


لغز التطويبات

أسوأ شيء يمكن أن نفعله بالتطويبات هو أن نظن أنها وصايا أو أنها شروط لدخول الملكوت. أي أن المسيح يقول: "كونوا مساكين روحياً أو حزانى أو ودعاء أو صانعي سلام لكي تدخلوا ملكوت السموات، أو تنالوا التعزية أو تدعون أبناء الله.” لم يؤد التفكير في التطويبات بهذه الطريقة إلا إلى شعور عميق بالذنب ساهم إلى حد كبير في رفض المسيحية من جانب الكثير. هذا الذنب يشكل تياراً لا يزال متغلغلاً في المسيحية حتى الآن ويساهم في إضعاف إسهامها الفعّال في خير البشرية وفي التأثير على الشخصية الإنسانية الفردية.

إذاً ما هي رسالة التطويبات؟

إذا لم تكن رسالة التطويبات هي رسالة "كن هكذا؟" فما هي إذاً؟ قبل أن نسأل أنفسنا ما هي رسالة التطويبات؟ دعونا نسأل يسوع نفسه فالتطويبات هي تطويباته! ماذا كانت الرسالة التي يكرز بها يسوع؟ يقول الإنجيل أنه كان يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت. ما هو موضوع كرازته؟ ما الذي كان يقوله؟

يعطينا الإنجيل نسخاً مختلفة في الطول والقصر لهذه البشارة. لعل أقصر نسخة هي الموجودة في متى 4: 17 " من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات."

ما معنى " اقترب ملكوت السموات"

المعنى الذي يتبادر إلى أذهاننا دائماً هو أن "اليوم الأخير" قد اقترب. أو أن الدينونة قد اقتربت، لذا فعلينا أن نتوب و إلا فسوف نتعرض لدينونة الله وعقابه. بينما عندما نركز أكثر في بشارة يسوع وتعليمه والطريقة التي كان يتعامل بها مع الناس نجد أن كلمة "اقتراب" الملكوت لم يكن المقصود بها أن حلول ملكوت الله قد اقترب، ولكنه كان يريد أن يقول أنه قد جاء بالفعل. فبمجيئه، قد اقترب ملكوت الله من الناس. من الناس العاديين. بل من أصغر الناس وأصبح ملكوت الله متاحاً للجميع.

يقول الأب متى المسكين في إحدى عظاته عن ميلاد المسيح. "بميلاد المسيح، أصبح ملكوت الله طفلاًُ مقمطاً ومضجعاً في مزود يستطيع أي إنسان أن يحمله ويقبله!"

“ هنا نفسه يقول في متى 12: 28 " ولكن إن كنت أنا بإصبع الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله!" هنا يشير بكلمات أوضح إلى أن كلمة "اقتراب" ملكوت الله تعني أن ملكوت قد اقبل علينا واقترب منا.

من خلال ما يسمى "حدث المسيح" The Jesus Event بكل ما فيه من تجسد للكلمة الأزلي والإظهار العظيم لقوة الله وسلطانه على الشر ومن خلال المصالحة مع الله بالصليب والقيامة، من خلال كل هذا، قد اقبل ملكوت الله وأصبح متاحاً للبشر كل البشر.

هذه إذاًَ هي رسالة المسيح....

وفي لوقا 4 يخبرنا الإنجيل أن يسوع عندما دخل إلى المجمع بعد أن تعمد وفي أول عظة له، اختار أن يقرأ من سفر إشعياء الفقرة التالية:

1رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. 2لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ. 3لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ لأُعْطِيَهُمْ جَمَالاً عِوَضاً عَنِ الرَّمَادِ وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضاً عَنِ النَّوْحِ وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضاً عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ. 4وَيَبْنُونَ الْخِرَبَ الْقَدِيمَةَ. يُقِيمُونَ الْمُوحِشَاتِ الأُوَلَ. وَيُجَدِّدُونَ الْمُدُنَ الْخَرِبَةَ مُوحِشَاتِ دَوْرٍ فَدَوْرٍ. 5وَيَقِفُ الأَجَانِبُ وَيَرْعُونَ غَنَمَكُمْ وَيَكُونُ بَنُو الْغَرِيبِ حَرَّاثِيكُمْ وَكَرَّامِيكُمْ. 6أَمَّا أَنْتُمْ فَتُدْعَوْنَ كَهَنَةَ الرَّبِّ تُسَمُّونَ خُدَّامَ إِلَهِنَا. تَأْكُلُونَ ثَرْوَةَ الأُمَمِ وَعَلَى مَجْدِهِمْ تَتَأَمَّرُونَ. 7عِوَضاً عَنْ خِزْيِكُمْ ضِعْفَانِ وَعِوَضاً عَنِ الْخَجَلِ يَبْتَهِجُونَ بِنَصِيبِهِمْ. لِذَلِكَ يَرِثُونَ فِي أَرْضِهِمْ ضِعْفَيْنِ. بَهْجَةٌ أَبَدِيَّةٌ تَكُونُ لَهُمْ.

وفي أول عظة له في الهواء الطلق خارج المجامع "الموعظة على الجبل" لم يقتبس من الكتاب لأنه لا يعلم العارفين بالكتب، بل راح بالفعل يبشر المساكين قائلاً:

وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. 2فَعَلَّمَهُمْ قَائِلاً: 3«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 4طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. 5 طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. 6طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. 7طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. 8طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ. 9طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ. 10طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 11طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ. 12ﭐِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ.

لذلك فمن المنطقي لكي نفهم التطويبات، أن نضعها بالتوازي مع إشعياء 61 لأنها نفس الرسالة. هي إذاً ليست رسالة لمن استوفوا شروطاً لدخول الملكوت، وإنما هي رسالة للمرفوضين والمطرودين والمهمشين والمعوقين روحياً ونفسياً واجتماعياً والذين ليس لهم مكان في هذا العالم. هي رسالة لهم تقول أنه إن كان العالم لم يعطهم مكاناً ففي ملكوت الله مكان لهم.

هذه الفقرة في إشعياء 61 هي مفتاحنا لفهم التطويبات وهذا ما سوف نحاول أن نفعله في المقالات التالية فإلى اللقاء.