Tuesday, March 13, 2007

الابن الضال.. أحد المساكين بالروح



منذ عدة سنوات وفي كلية اللاهوت درست أحد المناهج الدراسية للعهد الجديد بعنوان "أمثال المسيح" وكان المدرس وقتها هو القس الدكتور عاطف مهني. في هذا المنهج الدراسي تعرفت على أحد أهم علماء العهد الجديد والمتخصص في تفسير الأمثال وهو يواقيم هيرمياس. ولهيرمياس نظرية هامة في تفسير أمثال المسيح القصصية وهي أن عالم المثل والعالم الروحي الذي يستخدم المثل لشرح أحد مفاهيمه، يتصلان في نقطة واحدة فقط. وأن محاولة إيجاد أكثر من نقطة أو إدخال العالم الروحي إلى عالم المثل أكثر من اللازم يفسد المثل. ولعل تفسير أوريجانوس لمثل السامري الصالح ابرز مثال لذلك فهو قد بالغ في التفسير وحاول إعطاء كل جزئية في المثل رمزاً روحياً فأصبح الزيت الذي صبه على جروح اليهودي يشير للروح القدس والخمر إلى التناول ثم الدينارين الذين أعطاهما السامري لصاحب الفندق يشيران إلى العهدين القديم والجديد! وهكذا فُقِد المعنى الأساسي للمثل وهو محبة القريب مهما كان جنسه أو خلفيته.

وعندما طبقت هذه النظرية على أحد الأمثال الشهيرة وهو مثل الابن الضال. الذي يصور كيف يتعامل الله مع المساكين بالروح.. فالابن الضال هو أحد أهم الأمثلة الإنجيلية عن المساكين بالروح. عندما طبقت هذه الطريقة في التفسير على هذا المثل، اكتشفت أنني، مع كثيرين، نرتكب دون أن ندري خطأً فادحاً ضد هذا المثل وضد أنفسنا والصورة التي نرى الله وطبيعة موقفه من نحونا نحن البشر.

َالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. 12فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. 13وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. 14فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. 15فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. 16وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. 17فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! 18أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ 19وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. 20فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. 21فَقَالَ لَهُ الاِبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. 22فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ 23وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ 24لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ. 25وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً 26فَدَعَا وَاحِداً مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟ 27فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. 28فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. 29فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. 30وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ. 31فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. 32وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ».

بدأ يسوع المثل بكلمة "إنسان" كان له ابنان. إذاً نحن نتكلم عن إنسان وليس عن الله. ونريد أن نعيش مع هذا الإنسان قصته لنتعلم عن هذا "الإنسان" شيئاً وهذا الشيء الواحد هو وجه الشبه بينه وبين الله وهذه هي النقطة التي يريد الرب يسوع أن يعلنها عن الله والتي من أجلها ساق هذا المثل.

هذا أب في ثقافة فلسطين القروية منذ ألفي عام. ما هي سمات هذا الرجل، كما يظهر من سرد المثل؟

هو رجل عادل. عندما طلب الابن الأصغر ميراثه، قسم لهما، أي للأصغر والأكبر معاً كل معيشته، وهذا على عكس الأعراف المتبعة في ذلك ا لوقت.

هو أيضاً غير مسيطر ويعطي الحرية كاملة لولديه أن يفعلا ما يشاءان. حتى الابن الأكبر أعطاه نصيبه لكي لا يبقى في البيت انتظاراً للميراث.

هو يحب ابنه مهما كان وليس عندما يتوب فقط. وهذه هي النقطة ا لتي نفقدها عندما، لا شعورياً، نعتبر أن هذا الرجل هو الله. كيف ذلك؟

يذكر الرب يسوع لنا لقطة للابن الأصغر في الكورة البعيدة وهو يرجع إلى نفسه ويدرك حقيقة أن أباه رجل صالح وأن البقاء في البيت أفضل من هذا المكان ويقرر العودة للبيت والعمل أجيراً لدى أبيه. ثم يتحول المشهد إلى الابن الأصغر عائداً والأب لا يزال بعيداً (لا يعرف سبب عودته)

وعندما يركض الأب ويقبله، نحن نفترض أن الأب (لكونه الله العالم بكل شيء) يعرف أنه جاء تائباً نادماً. بينما الحقيقة هي أنه، كإنسان، لا يعرف إن كان الولد عاد تائباً أم عاد ليطلب مالاً إضافياً ويعود من حيث أتى. وهذا يجعلنا بصورة خبيثة نعتبر أن الله يحب التائبين فقط، وكأن التوبة شرط للقبول والمحبة، فلا نستوعب أن محبة الله غير مشروطة ولا بالتوبة !

أمر آخر أهم، هو أننا عندما نسمع الأب يقول العبارة الشهيرة: " ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد." نتذكر فوراً أفسس 2: 1 ونفترض أنه يقصد أن ابنه كان "ميتاً بالذنوب والخطايا، وعاش أي عاد تائباً!" وأن كلمة ضال تعني الضلال الروحي. وهذا أيضاً يجعلنا نعتبر أن الله يحبنا عندما نعود عن ضلالنا وهو لا يحبنا ونحن في الخطية، بل سيبدأ في محبته لنا عندما نتوقف عن خطيتنا ونعود. لكننا إن عدنا وأدركنا أن هذا الرجل ليس الله! فسوف ندرك أنه لم يكن يعلم إن كان ابنه لا يزال حياً أم مات. فالمفقود لفترة طويلة يعتبر في عداد الأموات وهذا هو المقصود بعبارة "ميتاً فعاش" ـ فكأن الأب يقول: " بعد أن غاب كل هذه المدة الطويلة، حسبته في عداد الأموات، ولكن ظهر الآن فجأة أنه حيّ فكأنه قد قام من الأموات. وكان ضالاً تائهاً بعيداً عني فوجدته."

هذا الأب إنسان فهو لم يكن يعلم إن كان ابنه حياً أم لا ولم يكن يعلم مكانه وهو أيضاً لا يعلم، ولا يهمه الآن أن يعلم سبب مجيئه. كأب يحب ابنه، كل ما يعنيه الآن هو أن ابنه حي! و هناك شيئاً واحد يراه الآن هو أنه ينبغي أن يفرح ويسر لأن ابنه حيّ. لهذا السبب اعتبر الأب أي كلام عن التوبة والخطية والندم، محض سخف. أيضاً اعتبر عدم دخول الابن الأكبر للحفل أمراً شديد الألم و اهتمامه بأن أخاه بدد المال مع الزواني أمر لا مكان له في ذلك الموقف. بالإضافة إلى كل ذلك، ذلك الظلم الذي يوجهه الابن الأكبر للأب قائلاً له أنه لا يعطيه جدياً ليفرح مع أصدقائه مع أنه بالفعل قسم لهما كل معيشته من قبل!

ومع كل ذلك خرج إليه أيضاً كما خرج لأخيه الأصغر. و نلاحظ أن الأب عندما خرج للابن الأكبر لم يحاول أن يدافع عن ابنه ويؤكد توبته. لكنه لم يقل إلا تلك العبارة التي قالها للعبيد عندما أمرهم بالإعداد للاحتفال: " أخاك كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد."

كل ما يراه ا لأب هنا هو ابنه وليس أعمال ابنه! وهذا منطقي بالنسبة لأي أب في موقف مثل هذا.

تخيلوا معي مثلاً جندياً مصرياً كان يحارب في حرب الخليج الأولى في 1991 ولم يعد حتى الآن. المنطقي، بل القانوني هو أن يحسب في عداد الأموات، ويُسمح لزوجته أن تتزوج من غيره. لأنه قانوناً ميت. فإذا بنا نجده يقرع على باب بيته. ماذا يكون رد فعل أهله؟ وكم يكون سخيفاً أن أول ما يقوله هو أن يعتذر عن غيابه طيلة هذه السنوات أو يعترف بأخطاء ارتكبها عندما كان في الكويت أو العراق!

ما أهمية ذلك المنظور الإنساني بالنسبة لفهم المثل؟

المعنى الوحيد أو النقطة الوحيدة التي تصل المثل بالعالم الروحي هي أن الله كأب يحب أولاده ويهتم بهم أكثر مما يهتم بما يفعلونه. وإن كان يهتم بما يفعلونه فذلك لكونه يحبهم هم. هذا هو جوهر الإنجيل. القبول غير المشروط بأي شيء ولا حتى التوبة. لكن التوبة هي الفعل الإنساني الذي به يأخذ الإنسان هذا الحب وذلك القبول.

من هذا المثل ينشأ دائما سؤالان:

السؤال الأول: إن كان هذا الأب يحب ابنه هكذا وغير مهتم إلا به هو شخصياً، لماذا لم يرسل له مالاً وطعام إلى حيث هو؟ عندما سألت هذا السؤال لمجموعة من المدمنين، لم يكن رد أحدهم لاهوتياً متعمقاً، لكنه كان شديد العملية. قال لي ببساطة: " ما ينفعش يا دكتور!" فسألته: "لماذا؟" فقال: "لأنه كان سيبيع هذه الأشياء ويتعاطى بثمنها مخدرات!" هذه الإجابة برغم بساطتها شديدة العمق. فإذا لم يتغير توجه الإنسان ويعود إلى نفسه ويتوب، لن يستطيع التمتع بالمحبة. المحبة ليست بشرط التوبة ولكن التوبة هي شرط للقدرة على ا لتمتع بالمحبة. فقط في البيت يمكنه الاستمتاع بهذا الاحتفال!

السؤال الثاني، وهو مبني على الأول ويوجه عادة في صورة اعتراض: "إذاً المحبة ليست غير مشروطة تماماً، المحبة مشروطة بالعودة. العودة ليست شرطاً للمحبة ولكنه شرطاً لاستقبال المحبة. لابد أن يعود الولد بمحض إرادته ليستقبل الحب. وإذا قمنا بإلغاء هذا الشرط، فإن البديل الوحيد هو أن يرغم الأب ابنه على العودة، وهنا تنتفي صفة أخرى لا تقل أهمية في علاقة هذا الأب بأبنائه وهي الحرية. الله كما أنه خلقنا نحتاج للحب وللعلاقة، فإنه خلقنا أيضاً أحراراً ولن نستوعب أي محبة بدون حرية. الله يعيش توازناً دقيقاً بين الحب والحرية. هو يحب. ولكنه لا يفرض محبته. فهو يعطي الحرية ويدفع ثمنها كما ندفع ثمنها نحن أيضاً فهو يتعذب عندما تأخذنا حريتنا بعيداً عنه!

أهمية إدراك المحبة غير المشروطة للشفاء من مرض الخطية وكل الأمراض

الأساس في الخطية، وخاصة المزمن (الإدماني) منها هو الشعور بالعار وصغر النفس. الإنسان بسبب فقر الحب غير المشروط (خاصة في الطفولة) يشعر أنه بلا قيمة وأن أحداً لن يهتم به أو يرعاه. والإنسان يحتاج للقبول والحنان لكي يعيش. تشير الكثير من أبحاث المخ إلى أن بالمخ تنظيماً خاصاً باللذة والفرح يسمى مركز اللذة. هذا التنظيم يتم برمجته وضبط وظيفته من خلال الحب والرعاية والارتباط بين الطفل وبين الكبار (الأب والأم) وبعد ذلك يستطيع الإنسان بنفسه أن يضبط إيقاع مخه الوجداني ويسمح لنفسه باللذة في الحدود غير المضرة، كما يعرف كيف يؤجل اللذة إذا كان تأجيلها مفيداً له على المدى البعيد.

عندما لا يستطيع الإنسان أن يفعل ذلك يشعر بالخزي والعار والضعف لأنه لا يشعر أن أحداً يحبه، كما أنه لا يستطيع التحكم في نفسه، ومن هنا يلجأ إلى الأشياء الخارجية لكي يضبط إيقاع عقله ومشاعره. ويكون شعاره. إن كان أحداً لا يحبني، فسوف أحب نفسي بنفسي. سوف أستخدم المخدرات أو الطعام أو الجنس أو العلاقات العاطفية أو أي شيء لكي يكون عوضاً لي عن هذا الشعور بالخزي والذل الناتج من الرفض. في سفر أيوب يصور أليهو هذه الصورة بالعبارة: " احذر. لا تلتفت إلى الإثم، لأنك اخترت هذا على الذل." (أيوب 36: 21) كثيراً ما يكون الذي دفعنا للإثم هو شعورنا بالذل. لذلك من المهم جداً للعودة عن طريق الخطية، أن يشعر الإنسان بأنه مقبول حتى في أحلك لحظات ضعفه و خطيته. مثل هذا القبول يمحو تدريجياً العار الذي يكسر القلب ويسبب كل أنواع المرض ــ " العار كسر قلبي فمرضت" (مز 69: 20)

1 comment:

Unknown said...

Dr.Awsam Wasfy,,, really these words are awesome,,, i wish i can talk to person like you,, but thank you very very much :)